الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان للعبادة ولو علم الإنسان المعنى الشمولى للعبادة لعلم أن الله تعالى غنىٌ كل الغنى عن تلك العبادة.
فالعبادة وما تتضمنه من علاقة الإنسان بربه أو علاقته بنفسه أو علاقته بالآخرين إنما جعلت لصالحه ولمنفعته بالكلية.
فمن حيث علاقة الإنسان بربه نجد أنه لو استعرض كل عمل وكل لفظ تشتمله أى عبادة سواء أكان صلاة أو ذكر أو صوم أو غيرها نجد أن العائد العظيم يكون له وحده.
فإذا ذكرنا الصلاة على سبيل المثال فالمسلم عندما يبدأ يومه بالصلاة ومناجاة ربه، فيستفتح بذكر عظمة الله ومطلق قدرته وتفرده بكل صفات الجمال والجلال ويستشعر ذلك جيدًا، ثم يقوم بعد ذلك بالاستعانة به والتوكل عليه وإلقاء كل حموله وأعبائه التى أثقلت ظهره أمام خالقه العظيم القادر على كل شئ، الرحيم بعباده فيشعر براحة فائقة وانشراح لصدره، وبأنه قد تحرر من كل القيود والضغوط التى تثقل كاهل الآخرين الذين حرموا أنفسهم من الوقوف بباب المولى العظيم وأسلموا قيادهم لمن لا يملك ولا يقدر ولا يرحم، فالمؤمن يستمد قوته من طمعه فى عطاء ربه، وثقته بقوته ومن اليقين بحكمته، فالمشاعر الإيمانية التى تملأ النفس بكل الأحاسيس الإيجابية فياضة حتى أنها تنتقل لكل من حولها ولا يمكن أن تحدها حدود بل لا يستطيع أبلغ البلغاء التعبير عنها ليصفها كمًا أو كيفًا، ثم تأتى أفعال الصلاة لتجلى هذا المعنى فكلها خضوع وخشوع وتهيئة للقلب للسباحة والسياحة فى ملكوت الله، وانصراف عن شواغل الدنيا وهمومها ما بين انكسار البصر بالتوجه نحو موضع السجود وما بين ركوع وسجود، ولا يتوقف الإعجاز عند هذا التحليق بل يتجاوزه إلى صحة البدن وعافيته فلا عبثية ولا عشوائية فى أوامر المولى، فكما أن لكل حرف معنى و مغزى؛ فلكل حركة دورها فى تمرين الجسد مع دورها فى تسكين النفس و القلب.
فالجسد هو أداة الإنسان وهو وسيلة إمتاعه أو تعذيبه فى الدنيا و فى الآخرة، فكان لابد أن تمتد العناية الإلهية إليه، وأن تجعل له حظًا فى فوائد العبادة بل الحظ الوافر، فالإنسان مهما بلغ به الكسل أو الإهمال فى حق بدنه؛ فالصلاة تجبره على الحد الأدنى ليصون به هذه الآلة، و لن نغوص فى بحر العلم عن الفوائد الطبية للصلاة لأن هذا باب واسع ومتشعب وعميق، ولكن من الأمور البديهية المعلومة لكل أحد هو التمرين الاعتيادى من خلال حركات الصلاة فما من أحد إلا ويعلم أنه إذا اعتاد الجسم على حركات بسيطة غير عنيفة فإنما هى وقاية للجسم مما يشبه الصدأ فى الآلات التى لا تعمل ، وأول وصفة طبية يطلبها الطبيب من الشخص الذى يعانى الآلام هو العلاج الطبيعى كبديل عن الرياضة، فى حين أن الصلاة هى أداة لهذا التمرين الرياضى السهل الممتع لمن يؤديه بروحه قبل جسده ، فمن يبحث عن صحته البدنية والنفسية فلن يجد مثل الصلاة، والخالق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان ليعمل بشقيه الذهنى والجسدى فإذا توقف أحدهما عن العمل يسبب للمرء مشكلة بل مشكلات، والصلاة تقدم للإنسان نمطًا نموذجيًا لتحقيق هذه المهمة التى ينطلق منها لممارسة مهامه الآخرى على الأرض بعد أن شحذ قواه الذهنية والبدنية والنفسية .
هذا بخلاف أن الصلاة تنظم المفكرة اليومية بشكل متوافق تماما مع طبيعة تكوينه النفسى والبدنى وهذا ما أثبته العلم الحديث وإن كان يكفينا ما لمسناه بأنفسنا دون اللجوء إلى أى نظرية علمية فحاجة العبد الدائمة إلى ربه تؤكد ما سبق من شدة احتياجه للعبادة بكل أنواعها.
فالصلاة تجبر المسلم على الاستيقاظ في الصباح الباكر الذي يستنشق مع نسماته أنقي الهواء، ويبدأ يومه بالوضوء الذي يجعله نشيطا منتعشا، وما أن تدب فيه شعلة النشاط حتى تبدأجميع أجهزة الجسم تعمل بأعلى كفاءتها وعلى رأسها الجهاز العصبي الذي يهييء المخ لاستقبال المعلومات فهما وحفظا وتحليلا.
أما استقباله لأشعة الشمس عقب بزوغها ففائدتها معروفة لعامة الناس ونفس الفائدة يحصل عليها الجسم قبيل غروب الشمس، وهذان الوقتان وقتي كراهة للمسلم أن ينام أثناءهما.
فالصلاة كلها فوائد بالنسبة للمسلم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وخلاصة القول أنها لمن يؤديها على وجهها الصحيح تنعكس إيجابا على حركة المسلم في الحياة كلها بما تمنحه له من الطاقة النفسية والبدنية؛ فهي المغتسل الحسي والمعنوي الذي يقوي البدن ويحرر الروح؛ لتنطلق كما أراد الله لها من خلال تعبدنا له، وهوالعلة الأساسية لخلق الإنسان قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ .مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ .إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات 56: 58]
أما علة العبادة فهي الرحمة ؛ فقد كتب سبحانه على نفسه الرحمة ، وحرم على نفسه الظلم ؛ فينبغي على كل منا حين تعبده لربه أن يوقن أنه يعرض نفسه لرحمة ربه مستحضرا إيمانه الجازم بأنه سبحانه الغني عن عبادته بله عبادة جميع خلقه وهم الفقراء لنعمه ورحماته و آلائه سبحانه ففي الحديث القدسي عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّهُ قال: «يا عبادي ! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا. فلا تظَّالموا. يا عبادي ! كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه. فاستهدوني أَهْدِكم. يا عبادي! كلكم جائعٌ إلا من أطعمتُه. فاستطعموني أُطعمكم. يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوتُه. فاستكسوني أكْسُكُم. يا عبادي ! إنكم تُخطئون بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا . فاستغفروني أغفرُ لكم . يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني . ولن تبلغوا نفعي فتنفَعوني . يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإِنْسَكم وجِنَّكم . كانوا علىأتقى قلبِ رجلِ واحدٍ منكم . ما زاد ذلك في ملكي شيئًا . يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكم وآخركم . وإنْسَكم وجِنَّكم . كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ . ما نقص ذلك من ملكي شيئًا . يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم . وإنسَكم وجِنَّكم . قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني . فأعطيتُ كل إنسانٍ مسألتَه . ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ . يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم. ثم أوفِّيكم إياها . فمن وجد خيرًا فليحمدِ اللهَ . ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه ". وفي روايةٍ : " إني حرَّمتُ على نفسي الظلمَ وعلى عبادي . فلا تظَّالموا » (صحيح مسلم؛ رقم: [ 2577]) .