نظرا لكون الخشوع أهم أركان الصلاة وسر الانتفاع بها وجني ثمراتها ومردوداتها على المصلي من الراحة كما كان يقول صلى الله عليه وسلّم: «أرحنا بها يا بلال»(رواه أحمد وأبو داود)؛ ومن حصول النهى عن الفحشاء والمنكر والبغي {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} بالعنكبوت:45]؛ وحصول الاستعانة بها بعد الصبر كما في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]؛ فالخاشعون هم من يتنعم ويتلذذ بالصلاة وغيرهم تكبر وتشق الصلاة عليه؛ لذلك حرص الشارع على تشريع ما يضمن للمصلى الخشوع ونهى عما يصده عن هذا الركن الأصيل من أركانها.
ومن أهم هذه التشريعات سترة المصلي التى تحول بينه وبين المارة فلا ينشغل بهم عن مناجاة ربه وألا ينشغل ببصره عما وراءها، ومنع من يجتاز بقربه. وذلك لما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا وَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ».
السترة هي: شيءٌ مرتفع يقترب منه المصلي؛ ليكون بينه وبين القِبْلة؛ حتى يعلمَ الناس أنه يصلي، فلا يمر أحد مِن بين يديه؛ فقد قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: " «إذا صلَّى أحدُكم، فليُصلِّ إلى سُترَة، وليَدْنُ منها؛ لا يقطع الشَّيطانُ عليه صلاتَهُ» (رواه أبو داود، وابن ماجه، وثبت عنه في الصحيحين نحوه).
واختلف العلماء في حكم السترة بين الوجوب وتأكيد الاستحباب؛ والذى عليه الجمهور أنها سنة مؤكدة يقول الشيخ ابن عثيمين في الشرح (2/309):"وقال بعض أهل العلم: إنه إذا لم يخشَ مارًّا فلا تُسَنُّ السُّتْرة.
ولكن الصحيح أن سُنيَّتها عامة، سواء خشي المارَّ أم لا.
وعُلم من كلامه: أنَّها ليست بواجبة، وأنَّ الإنسان لو صَلَّى إلى غير سُترة فإنه لا يأثم، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم ؛ لأنها من مكمِّلات الصَّلاة، ولا تتوقَّفُ عليها صحَّة الصَّلاة، وليست داخل الصَّلاة ولا مِن ماهيَّتها حتى نقول: إنَّ فقدَها مفسدٌ، ولكنها شيء يُراد به كمال الصَّلاة، فلم تكن واجبة، وهذه هي القرينة التي أخرجت الأمر بها من الوجوب إلى الندب.
واستدلَّ الجمهور بما يلي:
- حديث أبي سعيد الخدري: «إذا صَلَّى أحدُكم إلى شيءٍ يستُره من النَّاسِ؛ فأراد أحدٌ أن يجتازَ بين يديه؛ فَلْيَدْفَعْهُ» فإن قوله: «إذا صَلَّى أحدُكم إلى شيء يستره» يدلُّ على أن المُصلِّي قد يُصلِّي إلى شيء يستره وقد لا يُصلِّي، لأن مثل هذه الصيغة لا تدلُّ على أن كلَّ الناس يصلون إلى سُتْرة، بل تدلُّ على أن بعضاً يُصلِّي إلى سُتْرة والبعض الآخر لا يُصلِّي إليها.
- حديث ابن عباس: "أنَّه أتى في مِنَى والنبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي فيها بأصحابه إلى غير جدار".
- حديث ابن عباس: "صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم في فضاء ليس بين يديه شيء" وكلمة "شيء" عامة تشمل كلَّ شيء، وهذا الحديث فيه مقال قريب، لكن يؤيِّده حديث أبي سعيد، وحديث ابن عباس السابقان.
- أن الأصل براءة الذِّمَّة.
أما المسافة التي تكون بين المصلي وسُترته وقد جمع العلماءُ بين حديث سهل بن سعد في أنها ممر شاة وبين حديث ابن عمر في ثلاثة أذرع؛ فقال الدَّاودي: أقلُّهُ مَمرُّ الشَّاة، وأكثرُه ثلاثةُ أذرعٍ (وَيُمكِن أن يُقال: إنه يجعل السترة قريبة منه، بحيثُ تكون عند منتهى رأسه إذا سجد) والذراع يقدر 50الى 75 سم.
ومنهم من جمع بين حديث ابن عمر وحديث سهل بن سعد رضي الله عنهم جميعاً ، فحمل حديث ابن عمر (ثلاثة أذرع) ، على حال القيام ، وحديث سهل (ممر الشاة) ، على حال السجود.
قال الشيخ الألباني رحمه الله في "صفة الصلاة" (1/114): " وكان صلى الله عليه وسلم يقف قريبا من السترة، فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع , و بين موضع سجوده ، والجدار ممر شاة " انتهى .
ومقدار ارتفاع السترَة كما فى طلحةَ بنِ عُبيد الله - رضي الله عنه - أنه قال: "كنَّا نصلِّي والدوابُّ تمرُّ بين أيدينا، فذكَرْنا ذلك للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: « «مثل مؤخِّرةِ الرَّحْل -(وهو شيء مرتفع مقداره شِبر تقريبًا)- يكونُ بين يدَيْ أحدِكم، ثمَّ لا يضرُّهُ ما مَرَّ بين يديه - يعني لا يَضُرُّهُ ما مَرَّ مِن أمامه بعد السترة»(رواه مسلم).
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: عن مقدار السترة للمصلي؟
فأجاب: "السترة التي يضعها المصلي الأفضل أن تكون كمؤخرة الرحل نحو ثلثي ذراع، وإن كانت أقل من ذلك، فلا حرج حتى لو كانت سهماً أو عصاً، فإنه تجزئ" انتهى من "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (13/326).