1. المقالات
  2. أعمال القلوب
  3. قناديل الحكم (6)

قناديل الحكم (6)

الكاتب : د. صفية الودغيري
تحت قسم : أعمال القلوب
1715 2017/02/21 2024/11/12

عندما يفقد الإنسانُ خارطتَه، وبوصلةَ إيمانِه، وثقتَه بنفسه، يتحوَّل إلى مَسْخ بشري يبحث عن أي سبب من أسباب الحياة الفانية كي يتعلقَ بأهدابها الواهية، ويتسلَّق خيوطها المنقطعة، ولو كانت خيوطَ السُّمعة والشهرة، والتفاخر بالمنصب والوظيفة، والألقابِ والشهادات العلمية.

 

كي ترتقي مقاماتِ العلم وتسموَ إلى مراتبه العليا، عليك بالمُضِي في طريق الكدِّ والكدح، وسلوك سبل السلام، وولُوجِ أبواب العلوم والمعارف، والصدود عن الخوض فيما يخوض فيه الخائضون من أهل الشِّقاق والنفاق، والتعصبِ المَقيت، والخلاف البغيض، واجتنابِ مواطن الضعة والهوان، والاستخفاف والتسفيه.

 

تبدأ الغربة قويةً كالإعصار، وجامحة في الثورة والصهيل، ثم تنتهي عند فرحة اللقاء وغياب مشاهد الآلام والأحزان، ورحيل فصل الخريف وحلول فصل الربيع.

 

يكون اللسان أصدقَ في الإفصاح، وأنصعَ في البيان والإفهام، إذا خلصت المقاصدُ وصَفَتِ النِّيات مِن الفساد والدخن، ويظل اللسان يجاهد ويناضل، ولا يخترق حاجز الإبهام، ويغلب عليه الكذبُ والافتراء، وشهادة الزور، والادعاء بالباطل والبهتان، إذا فسَدَتِ المقاصدُ وانحطَّتِ الغايات، وخالطت الشوائبُ النِّيات، وامتلأت القلوبُ بالعلل والأسقام.

 

إذا خبا وهجُ البصيرة، ظهرت الحقيقةُ بين الملامح والصور؛ كأطياف وأخيلة في ظلام مطبق، ويكون انكشافُها خلف ستار الجاذبية باهرًا للعين، آسرًا للقلب، كأَيْكةٍ وارفة الظل، أو روضة من رياض السعد ناضرةِ الحسن، إذا جنَّ الظلام لفَّها حجاب الستر، فتروم النفس أن تشق حجابَها وتمزِّق أستارها، وتصرف وحشة التعلق بذاك الجمال الفتان، الملفوفِ بلحاف الصمت والكتمان.

 

تمسَّكْ بالأمل على الرغم من مصارع الأحزان وتوالي النكبات؛ فلن تقدرَ على أن تُصحِّح وتغير وتنتج، وتتفوَّق وتنجح وتُبدِع، وأنت تشحن النفسَ بالكآبة والقنوط واليأس، ولن تتلذذ شهد الأفراح وأنت تحمل فوق رأسك الأحمالَ والأثقال، ويهزمك الانكسارُ تلو الانكسار.

 

إن مَن يؤمنون بما يحملونه من آمال وأحلام عريضة، وأفكارٍ ورسائلَ عظيمة، يُدرِكون مطامحَهم البعيدة المنالِ، ويَبلُغون غاياتهم المنشودة، ولو كان الطريق أمامهم شاقًّا وعسيرًا.

 

يُولَد الألم صغيرًا، ثم لا يلبث أن يكبر، وينتهي كما بدأ صغيرًا كالبرعم، فلا تقِفْ حيث أنت تتجرَّع غصص المرِّ، ولا تَدَعْ غضبك يثور فـي عروقِـك، ويمتزج بصبيب الدم، فتحترق مِن الكمد، وتجـف ينابيعك من القيظ والقحط.

 

أنت لا تحتاج إلى مَن يُقاسِمك معاناتك، أو مَن يحملها عن كاهلك؛ لأنك وحدَك مَن تشعر بأنينِ ألَمِك المزروع بصدرك، ومخاض أوجاعك حين تشتد ولا تهدأ، ولن تجد مصطلحاتٍ تحتوي معانيها العميقة كما تحتويها في رفوف ذاكرتك، ولن تجد لغةً تُفصِح عنها إلا لغة إحساسك الصادق، ولن تجد في استعمالات البشر حسابًا يقيسها بالعدد، أو ميزانًا يَزِنُ حجمها ويقدر مثقالَها الحقيقي، إنما هي جرعات مِن كأس الحياة تسقيك الحلو والمر.

 

إذا غضبتَ فلتغضب انتصارًا للدينِ والحق والعدل، وغَيرة على المبادئ والفضائل والشرف والعرض، إذا غضبتَ لا تقِفْ في مكانك منتصبَ القامة كالطَّوْد، تارةً تُهدِّد وتتوعد، وتارة ترغي وتزبد، وتارة تنفجر كالتنُّور الملتهب، وتارة تهيج وتعلو كالموج الهادر، وتارةً تضطرب كالعواصف.

 

إذا غضبتَ فلتكن حليمًا لا فظًّا غليظَ القلب، ولا تصرخ كالملدوغ، وترفع صوتك مزمجرًا كالرعود، تهز الأرض تحت أقدامك، وتجوبها بالطول والعرض.

 

لا تصبَّ جام غضبك وحُمَم ثورتِك على رؤوس الخلائق، بل يكفيك أن تجلس إن كنتَ واقفًا، أو تقف إن كنت جالسًا، وتغادر المكان وتتنفس خارج إطارك الضيِّق، وتستحم بهُطُول الغيمات، وتتطهر من مائها المنهمر.

 

لو تأمَّل الإنسان في تلك الروح التي لا يملك أن يحملها على أكفِّه، أو أن يحيط عقله القاصر بماهيتها والجوهر، لأدرَكَ - فيما يُدرِكه - أن هذا الجسد الذي يدبُّ على الأرض هو أوهن من بيت العنكبوت حين يكون خلاءً من إشراقات الإيمان، وقناديلِ البصيرة المستنيرة بنور الله.

 

لا تصرُخْ؛ فلن تجد آذانًا تُصغِي إليك وأنت تصرخ، وصوتك العالي هو ثورةٌ جامحة سرعان ما ستتوقف، لتتجرع بعدها مرارةَ الإحساس بالانشطار والانقسام والاغتراب.

 

لو تأمَّل الإنسان في الآفاق على امتدادِ الكون الذي لا يحده البصر، لأدرَك أن ما حواه من أسرار ونواميسَ يَعجِزُ عن الإحاطة بها، وأن أنفاسَه التي تصعد وتنزل لا سلطانَ له عليها؛ إنما السلطان لمَن أودع هذه الأسرار بقدر محدود مَن اصطفاهم من خلقه وآثرهم بالعلم والمعرفة.

 

كل نهضة لا تُؤسَّس على مبادئ الدين الصحيح، تكون خلوًا من كل مكرمة وفضيلة، وخطرًا يُهدِّد كِيان الإنسانية وعمارة الأرض؛ لهذا كانت بعثةُ الرسل لإعادة البناء وتأسيس القواعد، وتحصين النفس، وتجديد الدين، ونشر التوحيد، وتخصيص العبادة لله وحدَه، وتحرير الإنسان من مظاهر الوثنية والشرك.

 

لولا بعثة الرسالات السماوية، لَمَا تهذَّبتِ النفوس ولا استقامَت، ولا أدركت البشريةُ ما أدركَتْه مِن الرقي والتمدُّن، ولظل العباد محكومين بنظام الغالب والمغلوب، الذي تتحكم فيه قِيَمُ المادة والشهوات والمطامح الساقطة.

إذا رفَّ جناح الشكوى، هزَّك الحنين إلى وُلُوج رَوْض السعد، هناك ستنتشي لذة العبادة والذكر من قطارة الشهد.

 

إذا تأخَّرتَ في اتِّخاذ القرارات الحاسمة في ميقاتِها المناسب، قد تكون النتائج والأضرار وخيمةً، ويتعذَّر عليك أن تُصحِّح أخطاءك أو أن تبدأَ مِن جديد، وقد يصعب عليك أن تختار في زمنٍ انفلت فيه الرباط من بين أصابع يدك.

 

لا تُقلِّد جِيدَ المعالي ما يزريه، فتُلقِي بنفسك في لُجَّة الأدناس وشقوة الفتن، فحِلْية المرء شرفٌ يعتدُّ به، ومكارم أخلاق وحسن خلالٍ يَرُوم بها عالي القمم، ولا يقعده عن بلوغ غاياته خوفٌ ولا وَجَل.

 

أنت أيها الإنسان فردٌ ضمن مجموعة، ولن تكون عصبةً قوية إلا إذا شعرتَ أن كل فرد مِن هذه المجموعة بمثابة اللَّبِنة، التي لا يكتمل البناء حتى تتراصَّ مع بقية اللبنات، وتتلاحم مع بعضها البعض، وأنك عضوٌ من بين أعضاء هذا الجسم البشري، الذي إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

 

إذا أردتَ أن تعتلي صهوةَ السُّؤدد والمجد، عليك أن تنأى عن خوضِ ساحات الهزل ومراتعِ الزلل، وكنتَ ذا سمتٍ حَسَن وهيبة ووقار، وذا إيمانٍ ويقين ومِن غرة جبينك يسطع، فالنخلة الشامخة لا تُثمِر إلا الرُّطَب من العذق، وفي ظلها تطيب النفس وتلتذ.

 

لكل باب مغلقٍ مزلاجٌ يزاح ورتاج يُرفع، وكذلك هي صفحاتُنا، لها مغاليق ومفاتيح، فمَن أجاد منا اختيار عنوانٍ لصفحته، فقد أجاد التعبير عن هُوِيَّة كتابه، ورسم للقارئ معالم فكره، وخط طريقًا لثقافته ومقومات شخصيته، وقدَّم لنفسه بمقدمة وتمهيد يتحدَّث عنه ويخبر عن فحوى رسالته ومضمون خطابه.

 

إن تسَلْ عن المرء فسَلْ عن مبطنه والمخبر، ولا يغرك من أحواله جمالُ الأسلوب وحسن المنطق، ولا رشاقة الجسم وسحر المظهر.

 

ليس عيبًا أن تشعر باعتزازِك بذاتك واعتدادِك بأمجادك، حين تكون أهلًا لتعبِّر عن ذاك الاعتزاز والثقة بالنفس، بلا غرور ولا مباهاة ولا خيلاء.

 

لا تجمِّلي طفلتَك بمساحيق وجهِك الذي قد شاخ، ولا تُعوِّديها على ألوان الجمال المستعار، فبراءةُ طفولتِها هي البهاء الخلَّاب، وتمام الحُسْن البديع الصفات والخِلال.

 

يقولون إن للحب عيدًا، فهل جعلوا لرفيف النبض عدًّا وحسابًا بالساعات والأيام؟! وهل جعلوا للقلوب الخافقات بالحب عيدًا؟! وهو في كل الأعياد شمسٌ لا تغرُبُ عن مُحيَّا الشروق، وله دفءٌ في كل الأيام والساعات والفصول.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day