البحث
حين غابت السماحة من بيوعنا!
مواقف عدة جرت أمامي في فترات متقاربة كانت سببًا في كتابة هذا المقال، أحدها في السوق: حيث لاحظت مرارًا محاولة بعض المشترين إبخاس البائع بعض حقه في السلعة بعد أن يعلمهم بسعرها مُسبقًا ويبدؤون بانتقاء أفضل ما عنده في صورة تؤكد رضاهم وموافقتهم على السعر المحدد، فإذا ما جاء وقت أداء الثمن انتقصوا شيئًا منه وأعطوا البائع أقل مما طلب، مستخدمين وسائل التخجيل والحياء تارة أو فرض الأمر الواقع عليه تارة أخرى.
ولعل مما يزيد الطين بلة -كما يقال- في أمثال هذه الحوادث أن يظهر على حال المشتري ما يدل على أنه من أصحاب الغنى والسعة وكثرة المال، بينما يظهر من حال البائع أنه فقير محتاج قد ألجأته الظروف القاسية أن يجلس طوال النهار في السوق ليبيع بعض السلع ذات المردود المادي الضعيف أو البسيط لسد حاجته وحاجة من يعول.
بدلا من أن يكون حال هذا البائع دافعًا لأن يتعامل معه المشتري بسماحة وسهولة كما أمر سول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى» (صحيح البخاري:2076) تراه يفعل عكس التوجيه النبوي، فيساومه ويجادله على سعر السلعة، ويعطيه في النهاية ما قد يسكته سكوتًا لا يدل على تمام الرضى والقبول.
في المقابل هناك صورة أخرى قد لا تكون أقل مخالفة لصريح الهدي النبوي في التعامل بين البائع والمشتري من سابقتها، ألا وهي صورة البائع الذي لا يراعي في تجارته وتعامله مع المشترين القيم والسوكيات الأخلاقية التي أرشد إليها الإسلام الحنيف أتباعه في بيوعهم.
ويحضرني هنا مثال صارخ على غياب السماحة في التعامل عند بعض الباعة المسلمين، وملخص الحادثة أن رجلًا اشترى كمية كبيرة من السلع الموجودة في محل البائع، وحين سأل المشتري عن قيمة فاتورة الحساب كان الجواب من البائع: بضع مئات من الجنيهات وجنيه واحد أو نصف، ولأن عادة التجار في مثل هذه الحالة أن يخصم وحدة الجنية أو النصف الزائد على المئة أو المئات على سبيل التسامح والتساهل، أو لاستدراج الزبون ليكرر زيارته للمحل أو لعدم وجود فكة على الأقل. أعطى المشتري البائع المبلغ المطلوب دون الجنيه، فما كان من البائع إلا أن طالبه بالجنيه وأصر على ذلك، وهو ما أدهش المشتري وجعله في حيرة من تصرفه الذي لا يمت إلى التسامح والتساهل بأي صلة؟!
قد يظن أمثال هؤلاء أنهم بسلوكهم هذا يمارسون الحذاقة، ويتشدق بعضهم بتأويل الحديث النبوي على غير معناه الحقيقي، بينما دلالة الحديث تشير بوضوح إلى أن السهولة واليسر والتسامح هي هدي الإسلام في بيوع المسلمين ومعاملاتهم.
قال ابن بطال رحمه الله: "فيه الحضُّ على السَّمَاحَة، وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة والرقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه؛ لأن النَّبي عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم، في الدنيا والآخرة" (شرح البخاري 6/210). وقال المناوي: "سمحًا" أي جوادًا أو متساهلًا، غير مضايق في الأمور... وهذا مسوق للحث على المسامحة في المعاملة، وترك المشاححة والتضييق في الطلب، والتَّخلُّق بمكارم الأخلاق. (فيض القدير:2/441).
والحقيقة أن أقل ما يمكن أن يقال في نتائج وآثار غياب السماحة من بيوعنا من خلال الأمثلة السابقة وغيرها هو: غياب البركة والطمأنينة والسهولة في معاملاتنا اليومية، وشيوع حالة من عدم الثقة والشك بين البائع والمشتري، وهو ما يستتبع بروز مظاهر سلبية كثيرة أقلها: عدم مراعاة كل من البائع والمشتري لحال الآخر وظروفه المادية والمعنوية، وتحفز كل منهما لغبن الآخر أو بخسه حقه بشكل أو بآخر.
وإذا كان الاستياء وعدم تمام الرضى هو المظهر السلبي الأبرز لغياب السماحة من بيوعنا ومعاملاتنا المادية ذات القيمة الصغيرة والبسيطة، والذي يمكن أن يتطور فيها الأمر إلى الخلاف والمشاجرة وتبادل الشتائم و...، فإن رفع الدعاوى أمام المحاكم وتوكيل المحامين وفساد ذات البين بين الأهل والعائلة الواحدة أو الأصدقاء والجيران هو بعض آثار غياب السماحة من بيوعنا ذات القيمة المادية الكبيرة.
كم كنت أطرب لتلك الكلمات التي قالها لي صديق لي يومًا ونحن نتحدث بهذا الموضوع الذي قد يغفل عنه كثير من المسلمين، إذ كان يؤكد لي أنه يتقصد في كل مرة ينزل فيها إلى السوق أن يبحث عن البائعين الذين يظهر على حالهم الفقر وقلة ذات اليد، ليشتري منهم ما يعرضونه من بضاعة، حتى ولو لم يكن شديد الحاجة إليها أو يريدها الآن، وبالسعر الذي يطلبونه دون أي مناقشة أو مساومة، بل ربما يسامح في بعض ما قد يزيد له من مال.
تذكرت وهو يذكر لي سلوكه وطريقته في بيوعه ومعاملاته الحديث النبوي الشريف الذي رواه ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه عن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَىْءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِرًا فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ» (صحيح مسلم:4080).
وفي رواية البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» (صحيح البخاري:2078).
ليس فقدان البركة والمحبة والثقة فيما بين المسلمين هو الأثر الوحيد لغياب السماحة من بيوعنا، فهناك الإساءة لدين الله تعالى وتنفير الناس عن الدخول فيه، وهل أدخل الناس في دين الله أفواجا في دول كثيرة في آسيا وإفريقيا إلا تعامل التجار المسلمين السمح مع أهل تلك البلاد؟!