1. المقالات
  2. أعمال القلوب
  3. {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} براءة من الأديان الأخرى وليست إقرارًا وتركًا لها

{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} براءة من الأديان الأخرى وليست إقرارًا وتركًا لها

تحت قسم : أعمال القلوب
2845 2017/05/30 2024/10/10

المقدمة :

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..

أما بعد: 

كثيرًا ما نسمع في وسائل الإعلام عند التحدث عن الأديان الأخرى غير الإسلام، من يهودية ونصرانية وبوذية وغيرها.. أن الإسلام يقر الحرية، والإسلام دين السماحة ويعترف بالأخرين ويقرهم على دينهم، ثم يستدلون بقول الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}..!!

ويقول ذلك ويدعيه العامة والخاصة حتى البعض ممن ينتمون إلى العلم والدعوة بل وبعض الجماعات الإسلامية، ويركزون على ذلك ويعتمدونه، حتى أصبح الأمر بمثابة العقيدة التي لا تتزعزع عند الناس وللأسف أن بعض الدول تنتهج سياسة الوفاق مع اليهود والنصارى، وإدعاء الوحدة الوطنية والإخوة الإنسانية، وأنه لا يوجد عداء بين المسلمين وغيرهم من أجل الدين على الإطلاق، بل لا بد من وجود المحبة والموالاة والمحبة بين المسلم وبين أصحاب الأديان الأخرى فإنهم جميعًا يشتركون في الوطن والإنسانية.. وهذه السياسات الفاسدة هي التي جندت من يدعي هذه الإدعاءات.

هكذا تموت عقيدة الولاء والبراء، وهكذا يغطون على الآيات البينات من كتاب الله تعالى التي أمرت بالبراءة من اليهود والنصارى والمشركين أجمعين، وهكذا يتم تدجين المسلمين فيأمن منهم اليهود والنصارى والمشركين، مع أن المسلمين في الواقع يقعون دومًا ولا يزالون تحت كيد مكر وخبث اليهود والنصارى وآلة القتل اليهودية والنصرانية لا تزال تعمل في أبناء الأمة. وفوق هذا يأتي من يتلاعب بالنصوص الشرعية، ويلوي أعناق النصوص، ويلبس على المسلمين البسطاء دينهم، ليدعي أن الإسلام أمر بمتاركة الأديان الأخرى، وأقرها، وأقر حرية الاعتقاد، وأمر بالمسامحة والمحبة.. إلى آخر هذا الباطل.

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ» (رواه أحمد [26213]، والطيالسي في مسنده [1057]، وعن ثوبان رواه الترمذي في الفتن باب ما جاء في الأئمة المضلين [2155]، وأبو داود في الفتن [3710]، وأحمد [21359]، وعن أبي ذر رواه أحمد [20335]، وعن عمر أخرجه أبو نعيم في "الحلية" [6 /46]، والحديث صححه الألباني في الصحيحة [1582]) . 

وفي السطور القادمة نحب أن نركز على آية من كتاب الله تعالى، يستدلون بها على باطلهم، وهذه الآية أتت على عكس ما يزعمون بالمرة فهي آية البراءة من المشركين لا آية القرب والمحبة وسنبين ذلك بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة: أن هذه الآية الكريمة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، بل وسورة "الكافرون" كلها أنزلها الله تعالى للبراءة من الشرك وأهله، وفيما يأتي بيان مقصود الشريعة من هذه الآية الكريمة بالدليل والبرهان وأنها نزلت لتقر أن الإسلام بريء من كل الأديان الأخرى ولا يقرها ولا يعتمدها ولا يتاركها -على عكس زعمهم-.. وهذا البيان سيكون بإذن الله تعالى في عدة نقاط هي:

1ـ بيان النبي صلى الله عليه وسلم بأن سورة الكافرون براءة من الشرك.

2ـ أقوال أئمة التفسير وهو موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم. 

3ـ هل قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} إذن للآخرين في الكفر وحرية العقيدة؟

4ـ السورة نزلت للمفاصلة بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان الأخرى.

5ـ سبب نزول السورة الكريمة يؤيد ويدعم كل ما سبق.

6ـ أنزل الله هذا الدين العظيم ليظهره على الدين كله.

7ـ هل الإسلام يقر حرية العقيدة؟

8ـ ذكر بعض الآيات الآمرة بالبراءة من الشرك والمشركين والناهية عن موالاتهم ومحبتهم، وبيان عداوتهم وكيدهم وخداعهم وبغضهم لأهل الإسلام.

9ـ ذكر بعض الأحاديث والآثار في ذلك.

10ـ تفسير سورة "الكافرون".

وإليكم البيان.. والعبرة بالدليل.. لا بالأشخاص ولا بالآراء ولا بالأفكار.. إنما العبرة بالقرآن والسنة بفهم سلف الأمة الأبرار.

أولاً: قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنها براءة من الشرك".

النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أنزل الله عليه القرآن، وعلمه إياه، وهو نبي هذه الأمة المبلغ عن ربه، وهل بعد فهم النبي صلى الله عليه من فهم؟!، وهل بعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير؟!، وهل بعد بيانه من بيان؟! وهل من بعد علمه من علم؟!.. وهل هناك من يعرف مقاصد القرآن مثله صلى الله عليه وسلم ؟!. فالنبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنّ أن هذه السورة إنما أنزلها الله تعالى للبراءة من الشرك والمشركين، وأن دين الإسلام لا يقر عقيدتهم ولا يصحهها، بل يتبرأ منها وينفيها، ومع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يفسر هذه السورة ويبين معناها والمقصود منها:

1ـ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عن أبيه رضي الله عنه: "أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي؟ قَالَ: «اقْرَأْ»  {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، «فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ» (رواه الترمذي في كتاب الدعوات [3325]، والنسائي في الكبرى [10640]، والحاكم [2031] وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي / ورواه والبيهقي في السنن [2415] والطبراني في الدعاء [252]، وأبو يعلى [1561]، وأبو نعيم في معرفة الصحابة [6315] و [6330]، وابن الحارث في مسنده [1041]، وابن الأعرابي في المعجم [1151]، والخرائطي في مكارم الأخلاق [905]، وصححه الألباني في صحيح الترمذي).

2ـ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِنَوْفَلٍ: «إقرأ» {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ما يقال عند النوم [4396]، وأحمد [23690]، والدارمي في فضائل القرآن [3293]، وابن أبي شيبة في مصنفه [6/241]، وبغية الحارث [1/316]، والنسائي في الكبرى [10637]، والحاكم [3941] وقال صحيح الإسناد، والبيهقي في السنن [2416]، والطبراني في الدعاء الكبير [340]، وابن السني في عمل اليوم والليلة [688]، وابن سلام في فضائل القرآن [422]، وابن الجعد في مسنده [2138]، وابن حبان [791] وصححه، وأبو نعيم في معرفة الصحابة [5830]، وابن القانع في معجم الصحابة [1799]، والخرائطي في مكارم الأخلاق [906]، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، وقال المنذري في الترغيب :رواه أبو داود واللفظ له والترمذي والنسائي متصلاً ومرسلاً وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب [605]).

3ـ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي؟ قَالَ: «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ» {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} «حَتَّى تَخْتِمَهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ» [رواه أحمد في المسند (20924)، والطبراني في الكبرى (2150)، والأوسط (900) و(2042)، ، وأبو نعيم في معرفة الصحابة  (2247)، ورواه البغوي وابن قانع والضياء (كنز العمال 41253)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/121): رواه الطبراني ورجاله وثقوا، وصححه الألباني في صحيح الجامع (292)].

4ـ عن أنس قال: قال رسول الله صل? الله عليه وسلم لمعاذ: «اقرأ: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} «عند منامك، فإنها براءة من الشرك» [رواه البيهقي في شعب الإيمان (2418)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1161)].

5ـ عَنْ مُهَاجِرٍ أَبِي الْحَسَنِ عَنْ شَيْخٍ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} قَالَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الشِّرْكِ»؛ قَالَ: وَإِذَا آخَرُ يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}  فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِهَا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» [رواه أحمد (16010)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة  (6/396)].

ثانيًا: أقوال أئمة التفسير وهو موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم.

نذكر طائفة من أقوال المفسرين، وهي تابعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم، وموافقة له، وهذا هو فهم الأمة الصحيح الذي لم يخالطه الخبث والدخن الذي انتشر اليوم. قال ابن عباس: "ليس في القرآن أشد غيظاً لإبليس منها؛ لأنها توحيد وبراءة من الشرك" [تفسير القرطبي (20/235)، وتفسير اللباب لابن عادل (16/471)]. 

قال ابن كثير: "هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه، فقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} شمل كل كافر على وجه الأرض. [تفسير ابن كثير (8/507) طبعة دار طيبة]. قال أبو حيان: "{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}: أي لكم شرككم ولي توحيدي، وهذا غاية في التبرؤ" [البحر المحيط (11/22)]. 

وقال البقاعي: "ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم، قال مؤذناً بصدق خبره تعالى آخر الكوثر من حيث إنه مع الجزم بالمنابذة لا يستطيعون له نوع مكابدة نافذة، بادئاً بالبراءة من جهته لأنها الأهم {لاَ أَعْبُدُ} أي الآن ولا في مستقبل الزمان" [نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (10/29)]. قال ابن الخطيب: "هذه السورة تسمى سورة البراءة وسورة الإخلاص، والمشفعة" [تفسير اللباب لابن عادل (16/471)]. قال الشنقيطي: "{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}: هو نظير ما تقدم في سورة يونس: {أَنتُمْ بريئون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بريء مِّمَّا تَعْمَلُون} [يونس: 41]، وكقوله: {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}" [البقرة: من الآية 139]. ليس في هذا تقريرهم على دينهم الذي هم عليه، ولكن من قبيل التهديد والوعيد كقوله: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: من الآية 29]. 

وفي هذه السورة قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وصف يكفي بأن عبادتهم وديانتهم كفر. وقد قال لهم الحق: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لأنها عبادة باطلة. عبادة الكفار، وبعد ذلك إن أبيتم إلا هي، فلكم دينكم ولي دين. [أضواء البيان (9/320)].

ثالثًا: هل قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} إذن للآخرين في الكفر وحرية العقيدة؟ قال البيضاوي: "{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد" [أنوار التنزيل وأسرار التأويل (5/422)]. قال الإمام الرازي: "فإن قيل: فهل يقال: إنه أذن لهم في الكفر؟ قلنا: كلا فإنه عليه السلام ما بعث إلا للمنع من الكفر فكيف يأذن فيه، ولكن المقصود منه أحد أمور:

أحدها: أن المقصود منه التهديد، كقوله: {اِعْمَلُوا مَا شِئِتُم} [فصلت: من الآية 40].

وثانيها: كأنه يقول: إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فاتركوني ولا تدعوني إلى الشرك.

وثالثها: {لَكُمْ دِينَكُمْ} فكونوا عليه إن كان الهلاك خيراً لكم {وَلِيُّ دِينِ} لأني لا أرفضه.

القول الثاني: في تفسير الآية أن الدين هو الحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر ألبتة.

القول الثالث: أن يكون على تقدير حذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبهم جزاء دينهم وبالاً وعقاباً كما حسبك جزاء دينك تعظيماً وثواباً.

القول الرابع: الدين العقوبة: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله} [النور: من الآية 2] يعني الحد، فلكم العقوبة من ربي، ولي العقوبة من أصنامكم، لكن أصنامكم جمادات، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام، وأما أنتم فيحق لكم عقلاً أن تخافوا عقوبة جبار السموات والأرض.

القول الخامس: الدين الدعاء، فادعو الله مخلصين له الدين، أي لكم دعاؤكم: {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} [الرعد: من الآية 14]، {وَإِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} [فاطر: من الآية 14]، ثم ليتها تبقى على هذه الحالة فلا يضرونكم، بل يوم القيامة يجدون لساناً فيكفرون بشرككم، وأما ربي فيقول: {وَيَسْتَجِيبُ الذين ءامَنُواْ} [الشورى: من الآية 26]، {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: من الآية 60]، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} [البقرة: من الآية 186].

القول السادس: الدين العادة، قال الشاعر:

يقول لها وقد دارت وضيني *** أهذا دينها أبدأ وديني


معناه لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشياطين، ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي، ثم يبقى كل واحد منا على عادته، حتى تلقوا الشياطين والنار، وألقى الملائكة والجنة.

المسألة الثانية:

قوله: {لَكُمْ دِينَكُمْ} يفيد الحصر، ومعناه لكم دينكم لا لغيركم، ولي ديني لا لغيري، وهو إشارة إلى قوله: {أَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى . وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 38-39]؛ أي أنا مأمور بالوحي والتبليغ، وأنتم مأمورون بالامتثال والقبول، فأنا لما فعلت ما كلفت به خرجت من عهدة التكليف، وأما إصراركم على كفركم فذلك ممالا يرجع إلي منه ضرر ألبتة.

المسألة الثالثة:

جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة، وذلك غير جائز؛ لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على سيدنا، وعلى آله وصحبه وسلم [تفسير الرازي (17/264)].

رابعًا: السورة نزلت للمفاصل? بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان الأخرى، وهذه الفقرة تحتاج إلى كثير اهتمام وتدبر عند القراءة، وهي لأئمة أجلاء من أئمة هذا الدين العظيم. قال الشيخ العلامة الشنقيطي رحمه الله: في هذه السورة منهج إصلاحي، وهو عدم قبول ولا صلاحية أنصاف الحلول، لأن ما عرضوه عليه صلى الله عليه وسلم من المشاركة في العبادة، يعتبر في مقياس المنطق حلاً وسطاً لاحتمال إصابة الحق في أحد الجانبين، فجاء الرد حاسماً وزاجراً وبشدة، لأن فيه أي فيما عرضوه مساواة للباطل بالحق، وفيه تعليق المشكلة، وفيه تقرير الباطل، إن هو وافقهم ولو لحظة، وقد تعتبر هذه السورة مميزة وفاصلة بين الطرفين، ونهاية المهادنة، وبداية المجابهة [أضواء البيان (9/320)].

وقال الأستاذ سيد قطب رحمه الله: ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه. والاختلاف الذي لا تشابه فيه، والانفصال الذي لا اتصال فيه، والتمييز الذي لا اختلاط فيه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.. 

أنا هنا وأنتم هناك، ولا معبر ولا جسر ولا طريق!!! مفاصلة كاملة شاملة، وتميز واضح دقيق.. ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق. الاختلاف في جوهر الاعتقاد، وأصل التصور، وحقيقة المنهج، وطبيعة الطريق. إن التوحيد منهج، والشرك منهج آخر.. ولا يلتقيان.. التوحيد منهج يتجه بالإنسان مع الوجود كله إلى الله وحده لا شريك له. ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان، عقيدته وشريعته، وقيمه وموازينه، وآدابه وأخلاقه، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود، هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله، الله وحده بلا شريك. ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس، غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية.. وهي تسير.. وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية، وضرورية للمدعوين.. 

إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها، وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف، أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلاً، ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد.. وهذا الإغراء في منتهى الخطورة!

إن الجاهلية جاهلية، والإسلام إسلام، والفارق بينهما بعيد، والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته، هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه. وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية: تصوراً ومنهجاً وعملاً، الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق، والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام. لا ترقيع، ولا أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق.. مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام، أو ادعت هذا العنوان! وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس، شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء، لهم دينهم وله دينه، لهم طريقهم وله طريقه، لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم، ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير! وإلا فهي البراءة الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح.. {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}... وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم..

ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة، ثم طال عليهم الأمد: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}، وأنه ليس هناك أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق، ولا إصلاح عيوب، ولا ترقيع مناهج.. إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان، الدعوة بين الجاهلية. والتميز الكامل عن الجاهلية {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.. 

وهذا هو ديني: التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه، وعقيدته وشريعته.. كلها من الله.. دون شريك.. كلها.. في كل نواحي الحياة والسلوك. وبغير هذه المفاصلة، سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع.. والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة، إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح.. وهذا هو طريق الدعوة الأول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [في ظلال القرآن (6/3992)].

خامسًا: سبب نزول السورة الكريمة يؤيد ويدعم كل ما سبق:

قال ابن كثير رحمه الله: هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه، فقوله {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} شمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفارُ قريش. وقيل: إنهم من جهلهم دَعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبد?ن معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية [تفسير ابن كثير (8/507)]. قال ابن الجوزي رحمه الله: ذكر سبب نزولها. اختلفوا على ثلاثة أقوال.

أحدها: "أن رهطاً من قريش منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث لقوا العباس بن عبد المطلب، فقالوا: يا أبا الفضل لو أن ابن أخيك أسلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول ولآمنا بالآلهه، فأتاه العباس فأخبره، فنزلت هذه السورة" [رواه أبو صالح عن ابن عباس].

والثاني: أن عتبة بن ربيعة، وأميّة بن خَلَف لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا محمد: "لا ندعك حتى تتبع ديننا، ونتبع دينك، فإن كان أمرنا رشداً كنتَ قد أخذتَ بحظِّك منه، وإن كان أمرك رشداً كنا قد أخذنا بحظنا منه، فنزلت هذه السورة، قاله عبيد ابن عمير".

والثالث: أن قريشاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن سَرَّك أن نتبع دينك عاماً، وترجع إلى ديننا عاماً، فنزلت هذه السورة، قاله وهب. قال مقاتل في آخرين: نزلت هذه السورة في أبي جهل وفي المستهزئين، ولم يبق من الذين نزلت فيهم أحد" [زاد المسير (6/196)]. وكل ما نقلته كتب التفسير حول أسباب النزول، تذكر هذا السبب، ألا وهو دعوة كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم أن يلتقوا معه على حل وسط، فيعترف بآلهتهم ويقرهم على دينهم، وهم بناء على ذلك سيعترفون بدينه ويقرونه عليه. فأنزل الله تعالى هذه السورة العظيمة للبراءة منهم ومن شركهم، وبيان أنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يلتقي معهم في طريق واحد، ولا يمكن أن يكون بينه وبينهم حلاً وسطًا. وتم توجيه الخطاب بهذه السورة إلى جميع ملل الكفر عامة، لا لكفار قريش فقط، فهي نزلت لتكون عقيدة وحكمًا ماضيًا إلى يوم الدين، وكما يقول أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فما أشد الحاجة اليوم لأن يتفهم أهل الإسلام لهذه السورة وما تتضمنه من عقائد وأحكام.

سادسًا: أنزل الله هذا الدين العظيم ليظهره على الدين كله

ومما يؤيد ما ذكرناه سابقًا من أن المقصود بـ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} البراءة من الشرك والمشركين، وليس المقصود تركهم أو إقرارهم على ما هم عليه من دين، ما أنزله الله تعالى من آيات تبين وتوضح وتقرر أن الله أرسل رسوله بهذا الدين، ليظهره على الأديان كلها، وينصره عليها. أنزل الله تعالى هذا الدين العظيم ليظهره على الدين كله، وذلك بنصوص القرآن الواضحة الجلية فلم ينزل لكي يترك الأديان الأخرى أو يقرها أو يداهنها، بل ليظهر على الأديان كلها. 

قال الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم: في سورة التوبة: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [32-33]. قال الشيخ السعدي: فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أي: ليعليه على سائر الأديان بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، وإن كره المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكر السيئ لا يضر إلا صاحبه، فوعد اللّه لا بد أن ينجزه، وما ضمنه لا بد أن يقوم به [تفسير السعدي (1/235)].

وفي سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}  قال ابن كثير: أي على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم ومليين ومشركين. [تفسير ابن كثير (7/255)]. وفي سورة الصف: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [7-9]. 

قال الشيخ السعدي: "{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، ويظهر أهله القائمين به بالسيف والسنان، فأما نفس الدين، فهذا الوصف ملازم له في كل وقت، فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه وبلسه، وصار له الظهور والقهر، وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان، وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم، ويعرف هذا، من استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم" [تفسير السعدي (1/860)].

فالقرآن الكريم يصدق بعضه بعضًا، ويفسر بعضه بعضًا، فلا تضاد ولا تناقض. فلا يمكن أن نقول: أن هناك آيات قالت وصرحت وبينت وقررت بأن الهدف من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام ليظهر هذا الدين على سائر الملل والأديان، ثم نأتي ونقول أن هناك آية آخرى أتت لتقر الأديان الأخرى وتتركها. بل القرآن أتى ليصدق بعضه بعضًا، فـ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أتت للبراءة من الأديان لا لتقررها، و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أتت لتقرر هذا المعنى أيضًا وتزيده وضوحًا وبيانًا. 

ولقد أتت الأحاديث النبوية الصحيحة بمثل هذه الحقائق القوية عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاً يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ».

وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ. [رواه أحمد (16344)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/181)، والحاكم في المستدرك (8444) وصححه، والطبراني في الكبير (1265) وفي مسند الشاميين (925)، والطحاوي في مشكل الآثار (5387)، وابن حبان (1631)، وابن بشران في الأمالي (363)، والبخاري في الأحاديث المرفوعة من التاريخ (456)، وابن منده في الإيمان (1113)، والحافظ عبد الغني المقدسي في " ذكر الإسلام" (166 / 1 ) وقال : "حديث حسن صحيح"، والمنتقى لأبي عروبة (69)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/449) : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3)].

(1) - المدر: الطين اللزج المتماسك، وما يصنع منه مثل اللَّبِنِ والبيوت وهو بخلاف وبر الخيام.

(2) - الوبر: صوف الإبل والأرانب ونحوهما والمقصود أهل البادية لأنهم يتخذون بيوتهم منهم.

عن المقداد ابن الاسود الكندي رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى على ظهر الارض بيت مدر ولا وبر إلا ادخله الله كلمة الإسلام، إما بعز عزيز، وإما بذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزوا به، وإما يذلهم فيدينون له» [رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/181)، والبخاري في الأجاديث المرفوعة من التاريخ (456)، والطبراني وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/449) : ورجال الطبراني رجال الصحيح]. 

عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله استقبل بي الشام، و ولى ظهري اليمن، ثم قال لي: يا محمد إني قد جعلت لك ما تجاهك غنيمةً و رزقًا، و ما خلف ظهرك مددًا، و لا يزال الله يزيد أو قال يعز الإسلام و أهله، وينقص الشرك و أهله، حتى يسير الراكب بين كذا يعني البحرين لا يخشى إلا جورًا، وليبلغن هذا الأمر مبلغ الليل» [رواه أبو نعيم (6 / 107 108) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1 / 377 378 ط ) والحديث عزاه السيوطي في "الجامع الكبير" (1 /141 /1) للطبراني في "الكبير" أيضاً وابن عساكر، وصححه الألباني في الصحيحة (35)]. هذا وهناك أحاديث أخرى تدور حول نفس المعنى، فالإسلام يعلو ويسود ويظهر على كل الأديان منفصلاً عنها ومفارقًا لها، بريئًا منها، لا يلتقي مع أي دين آخر، ولايحابيه ولا يداهنه، ولا يأذن له ولا يقره ولا يتاركه.. فكل ما يدور على الألسنة من السماح بحرية الاعتقاد، كلام فاسد لا أصل له في دين الإسلام. فالمقصود هو ظهور الدين وإعلاء كلمة الله على الدين كله، لا مداهنة أهل الأديان الأخرى والاعتراف لهم بصحة ما هم عليه من الباطل أو إقرارهم على ما هم عليه من الشرك.

سابعًا: هل الإسلام يقر حرية العقيدة؟ هذا السؤال تم توجيهه إلى الشيخ ابن باز رحمه الله فأجاب:

"الحمد لله. الإسلام لا يقر حرية العقيدة. الإسلام يأمر بالعقيدة الصالحة ويلزم بها ويفرضها على الناس، ولا يجعلها حرة يختار الإنسان ما شاء من الأديان، فالقول بأن الإسلام يجيز حرية العقيدة هذا غلط. الإسلام يوجب توحيد الله والإخلاص له سبحانه وتعالى، والالتزام بدينه والدخول في الإسلام، والبُعد عما حرم الله، وأعظم الواجبات وأهمها: توحيد الله والإخلاص له، وأعظم المعاصي وأعظم الذنوب: الشرك بالله عز وجل، وفعل ما يكفر العبد من سائر أنواع الإلحاد، فالله سبحانه يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[النساء: 36]، ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}[الإسراء: 23]، ويقول سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5]، ويقول عز وجل: {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، ويقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة: 5]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» (متفق على صحته).

فَبَيَّن عز وجل وبَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب العقيدة ووجوب الالتزام بشرع الله، وأن لا حرية للإنسان في هذا، فليس له أن يختار ديناً آخر، وليس له أن يعتنق ما حرم الله، وليس له أن يدع ما أوجب الله عليه، بل يلزمه ويُفتَرض عليه أن يستقيم على دين الله وهو الإسلام، وأن يوحد الله بالعبادة، وألا يعبد معه سواه سبحانه وتعالى، وأن يؤمن برسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وأن يستقيم على شريعته، ويوالي على هذا ويعادي على هذا، وأن يقيم الصلاة كما أمر الله، وأن يؤدي الزكاة كما أمر الله، وأن يصوم كما أمر الله، ويحج كما أمر الله. وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ «تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، فأنزل الله في هذا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلا مَنْ تَابَ}[الفرقان: 68-70]. فدل ذلك على أن توحيد الله والإخلاص له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتحريم القتل وتحريم الزنا أمر مفترض لابد منه، وليس لأحد أن يشرك بالله، وليس له أن يزني، وليس له أن يسرق، وليس له أن يقتل نفساً بغير حق، وليس له أن يشرب الخمر، وليس له أن يدع الصلاة، وليس له أن يدع الزكاة وعنده مال الزكاة، وليس له أن يدع الصيام وهو قادر على صيام رمضان إلا في السفر والمرض، وليس له أن يترك الحج وهو قادر على أن يحج مرة في العمر، إلى غير ذلك.

فلا حرية في الإسلام في ذلك، بل يجب أن يلتزم الإنسان العقيدة الصحيحة ويدع ما حرم الله، نعم، له حرية في الأمور المباحة التي أباحها الله له، له حرية في الأمور المستحبة التي لا تجب، فلو شاء تركها لا بأس، والمباح إن شاء فعله الإنسان وإن شاء تركه، أما ما أوجب الله عليه فيلزمه فعله، وما حرمه الله عليه فيلزمه تركه، وليس له أن يعتنق الشيوعية أو النصرانية أو اليهودية أو الوثنية أو المجوسية، ليس له ذلك بل متى اعتنق اليهودية أو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية أو الشيوعية صار كافراً حلال الدم والمال، ويجب أن يستتاب، يستتيبه ولي الأمر المسلم الذي هو في بلده، فإن تاب ورجع إلى الحق وإلا قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»(رواه البخاري في الصحيح). فمن بدل دينه دين الإسلام بالكفر يجب أن يقتل إذا لم يتب، فبهذا يعلم أنه ليس للمسلم حرية أن يترك الحق وأن يأخذ بالباطل أبداً، بل يلزمه الاستقامة على الحق ويلزمه ترك الباطل، وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينصح لله ويدعو إلى الله عز وجل، وأن يحذر ما حرم الله عليه، وأن يدعو الناس إلى ترك ما حرم الله عليهم، كل هذا أمر مفترض حسب الطاقة" انتهى. [سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله "فتاوى نور على الدرب" (1/311 313)].

ثامنًا: ذكر بعض الآيات الآمرة بالبراءة من الشرك والمشركين والناهية عن موالاتهم ومحبتهم، وبيان عداوتهم وكيدهم وخداعهم وبغضهم لأهل الإسلام قال الله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 6-7]. عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضُلالٌ» [تفسير ابن عطية؛ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 203)]. فنحن نطلب من الله تعالى ونكرر في الصلوات الخمس وغيرها من النوافل أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ويجنبنا سبل اليهود الذين غضب الله عليهم، والنصارى الذين ضلوا عن الحق، فكيف يمكن لنا إقرار هؤلاء على دين باطل أو محبتهم وموالاتهم. وقال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[البقرة: 61]. فكيف الالتقاء مع أعداء الله، الكافرون بآياته، قتلة الأنبياء، أهل الظلم والعدوان.

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }[البقرة: 105]. يكشف للمسلمين عما تكنه لهم صدور اليهود حولهم من الشر والعداء، وعما تنغل به قلوبهم من الحقد والحسد، بسبب ما اختصهم به الله من الفضل؛ ليحذروا أعداءهم، ويستمسكوا بما يحسد

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day