البحث
الصبر هدوء وطمأنينة
الصبر ألوان عديدة، وأنواع مديدة، وأشكال مريحة، نراها مرة تتقرب إلينا في ثوب فرح، وأخرى عارية منه تبكي حظها، ومرة في ابتسامة، وأخرى في دمعة.
وكأنما هي صور تعرض على القلوب، فأيُّ قلب فَهِم عنها ومنها، ووعى المعنى في أعماقها، فهو أقصر طريق إلى رِضا الله وحده
يقول تعالى
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
[البقرة155]
فإذا الرحمات تَغمر الصابر غيثًا مدرارًا؛ كيما تجدد الروح فيها، وما الروح في حالتها تلك إلا الأمل في الله، فهو جمال ما بعدَه جمال، فحينما يكون لنا صلة بالله، فكل شيء يهون، كل شيء يسهل ويتيسر، حتى الألم يصبح له طعم آخر مع جرعة صبر واستنفار لكل الجوارح؛ كي تدرك أنها في خطر دائم إن هي ابتعدت عن الله، وما ضرَّنا إذا جاء الفرح متأخرًا.
إذاً.. ستنتهي كل المشاكل عندما يتفتح القلب زهرًا نديًّا، كي يرتشِف رحيق هذه المعاني الجليلة والعظيمة فيرتوي حدَّ الاكتفاء، ساعتها ينتهي حزنُه وألمه، ويرتبط بحبه لربه، فتعلَّق به أيما تعلُّق، ويسلم كل أموره إليه.
إن شعور السكون ذاته الذي يغمر آيات الصبر يغمر من تخلق به، إنه الصبر في الفرح والحزن، فالمؤمن يعلم أنه مُطالب بالصبر في كل حالاته؛ صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله.
فالصبر عنوانها وبدايتُها ونهايتها، أما ختامها فمسك وريحان بإذن الرحيم الرحمن،
قال -جل وعلا
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾
[الرعد24]
والصبر رزق مبارك مِن الله، يَمنحه الله لمن يُحبُّهم ويودهم ويُقرِّبهم إليه، فهو الطمأنينة التي نحتاجها كي نمشي الهُوَينى على أرض لا يدوم فيها مكوثُنا، ولا تستقر على حال.
زادٌ نتعلم منه كيف نفرح بسكون، وكيف نحزن بسكون، الهدوء سمته في الأولى والثانية؛ فهو دومًا يُلوِّح لنا أن: الحياة الحقيقية ليست هنا، إنما هذه الدنيا متاع، كل ما فيها هو فقط عون لنا على طاعة المولى، وإلا فهو سبب للشقاء والتعاسة والبؤس؛
قال - جل وعلا
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ﴾
[النحل127]
وهل نُترك هكذا بدون مدد ولا عون
والله - جل وعلا - القائل في كتابه
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
[آل عمران146]
إننا نُقاتل الفِتَن، والضعف الكامن فينا، ونُجابه الشهوات والغفلات والملذات، فهل نُترك هكذا وحدنا؟ وهو يحبُّ الصابِرين المُجاهدين، وجهاد النفس أشد الجهاد، منه تتفرَّع شجرة الخير وتُثمر أمة نقيةً تقية!
كلا؛ فهو يحب الصابرين، إذًا فليُبشر كل صابر ومحتسب أنه منصور بإذن الله، وأن الله سيمدُّه بالعون والقوة والعزيمة، فليستمرَّ وليثابر حتى يقوى عزمه، وسيرى ثمار الصبر تترى مبشرات ونفحات ونسمات تعمُّ روحه وقلبه ووجدانه، يَستشعرها مع كل ألم أو حزن أو همٍّ يُصيبه، ويتجرع مرارته حتى تعود المرارة حلاوة، والألم أملاً ينير طريقه، فذاك الرضا الذي ارتضاه الله لعباده المجاهدين في سبيله، جنتهم المعنوية التي يحتمون في حصنها، حتى يتحقق وعد الله لهم في دار القرار في الحياة الخالدة، حينما تنكشف حقيقة الدنيا للكثير من خلق الله، فيدركون أنها كانت ممرًّا لا مقرًّا، ابتلاءً، تركًا وهجرًا وفقدًا، وكدًّا وجهدًا وبلاءً، وقليلاً من اللذة والفرح الذي لا يدوم إلا بذكر الله وطاعته.
إن الأرواح السامية الجميلة التي تحب الله، وتحب أن تَنثُر الخير وتسير إلى الله وتأخذ بيد من ضلوا ومن ابتعدوا عن جادة الصواب، تُداوي جراحها بكلام رب العالمين، تتذكر دائمًا في ساعة ألم
قوله - عز وجل
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
[الزمر10]
فإذا أرواحها تنشط من عقال، تسابق إلى جنات عرضها السماوات والأرض
وإن في الحياة لعبرًا وصورًا للصبر يعجز العقل البشري على أن يَسبر أغوارها، ويعرف قرارها، ويفهم السر الكامن في ثباتها حتى النهاية، من ألهمها الصبر؟
ولنا في حياة أنبياء الله ونبينا عليهم الصلاة والسلام الكثير الكثير من العبر التي تدل على أن الصبر هو أسمى خلق يتحلى به الإنسان، ولن يتم لنا شيء نتمناه إلا بالصبر، وإذا كان مبشر الصابرين هو رب العالمين، فلم لا نبتسِم وما أخذ منا إلا القليل، لو تأمَّلنا وتمعنا في حياتنا، ولحكمة ولخير اختاره الله لنا، وهو سبحانه في كل هذا قد أعطى وأغنى وأقنى، وقرَّب واستجاب وأفاض علينا من الخير العميم ما لو سجدنا العمر كله لن نوفيه حقه من الحمد والشكر.
لو تمعن كل منا في النِّعَم التي بين يديه لوجد الكثير الكثير الذي يُغنيه عن القليل الذي حرم منه ابتلاءً، واختبارًا، وتمحيصًا.
لو عقلنا وفهمنا ووعينا معاني القرآن، وما فيها من رسائل ربانية لأنستنا مرارة الفقد - أيَّ فقْد - ما دمنا مع الله وفي سبيله نحيا ونموت،
وما دمنا نرفع شعار
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
[الأنعام 162]
تكفينا جدًّا هذه الآية كي تكون نبراسَ أمل لمن قضَّ مضجعه الألم، ونورٌ لمن ضل الطريق، ونار تحرق كل الهواجس التي لا تنفكُّ تقتل العزيمة في المضي قدمًا نحو طريق الهداية
ولمن أراد أن يهدأ ويسعَد ويفرح ويعيش في توافُق مستمرٍّ بين روحه وجسده وقلبه ووجدانه وكل ذرة في كيانه، توافُقٍ سيرى عجائبه تجدَّدُ مع كل مرة يسمع
قوله سبحانه
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
[آل عمران146]
في الختام أسأل الله أن يجعلنا من الصابرين، الشاكرين، الذين يُحقّقون معنى العبودية في كل حال، وعلى أي حال.