البحث
توحيد العبادة(الألوهية)جزء 1 من 2
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما)
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا الله ولا تعصوه، واعلموا أن التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، هو أعظم الواجبات على العبد المكلف، وهو صرف جميع العبادات إلى الله تعالى، من صلاة وزكاة ودعاء وذبح ونذر وطواف وخوف وغير ذلك من أنواع العبادة، وهو معنى شهادة الإسلام: «لا إلـٰه إلا الله».
أدلة وجوب التوحيد
عباد الله، والأدلة من الكتاب والسُّنة على استحقاق الله وحده للعبادة دون ما سواه كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وقال تعالى: ﴿لا تجعل مع الله إلـٰها آخر فتقعد مذموما مخذولا﴾، وقال تعالى: ﴿ولا تجعل مع الله إلـٰها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا﴾، وقال تعالى: ﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا﴾، وقال تعالى: ﴿فإلـٰهكم إلـٰه واحد فله أسلموا وبشر المخبتين﴾، وقال تعالى: ﴿فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص﴾، والـدين هو العبادة، قال تعالى: ﴿قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين﴾، وقال تعالى: ﴿قل الله أعبد مخلصا له ديني﴾، وقال تعالى: ﴿فادعوا الله مخلصين له الدين﴾، وقال تعالى: ﴿وله الدين واصبا أفغير الله تتقون﴾، ومعنى «واصبًا» أي خالصًا[1]، وقال: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾، والحنيف: هو الراغب عن الشرك، المنكر له، وقد فَسَّره ابنُ القيم (رحمه الله) فقال: «الحنيف: المُقبل على الله، المُعرض عما سواه»[2].
وقال تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم): ﴿قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مئاب﴾، وقال تعالى: ﴿ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى﴾، وإسلام الوجه هو إخلاص الأعمال الباطنة والظاهرة كلها لله تعالى، وهو معنى قول الخليل عليه السلام: ﴿إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين﴾.
وفي «الصَّحيحين» من حديث معاذ رضي الله عنه: «فإنَّ حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»[3].
وفيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك»[4].
بل إنَّ ابن آدم مطالب بالتوحيد مُذ كان في صُلب أبيه آدم عليه السلام، ففي «الصحيحين» عنه (صلى الله عليه وسلم) قال: «يقولُ الله -تعالى- لِأَهْوَنِ أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أنَّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تَفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقول: أردتُ منك أهون من هذا وأنت في صُلب آدم؛ أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيتَ إلا أن تُشرك بي»[5].
عباد الله، وعندما أرسل النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) معاذًا إلى اليمن وحمَّـله أمانة تبليغ الرسالة؛ كان أول ما أمره به أن يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى، فقال له (صلى الله عليه وسلم): «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إلـٰه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنـيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإيَّاك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»[6].
وعن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) قال: بينما أنا رديف النبي (صلى الله عليه وسلم) ليس بيني وبينه إلا آخِـرة الرَّحل، فقال: «يا معاذ».
قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة، ثم قال: «يا معاذ». قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل». قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: «هل تدري ما حق الله على عباده؟». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقُّ الله على عباده أن يَعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا...» الحديث[7].
فهذا هو توحيد الألـوهية، الذي هو توحيد العبادة وتوحيد القصد والإرادة، فمن أتى به فقد حقق شهادة «لا إلـٰه إلا الله»، وأتى بلازِمِها وهو نفي الشرك وإنكاره والبراءة منه.
توحيد العبادة هو دعوة جميع الأنبياء
عباد الله، إن توحيد الألوهية، أو توحيد العبادة لله (سبحانه وتعالى)، هو دعوة جميع الأنبياء من نوح (عليه السلام) إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، وقال ﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة﴾.
أهمية توحيد العبادة
أيها المسلمون، أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويـبرهن عليها توحيد الألوهية والعبادة، وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها وأفضلها، وأوجبها وألزمها على البشر، وهو الذي خلق الله الجنَّ والإنس لأجله، وخلق المخلوقات، وشرع الشرائع لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح، وبفقده يكون الشر والفساد، وجميع الآيات القرآنـية إما أمر به، أو بحق من حقوقه، أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه، أو بيان جزاء أهله في الدنـيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين.
أيها المؤمنون، إن هذا النوع من التوحيد يقال له توحيد الألوهية، فإن الألوهية وصفه تعالى، الذي ينبغي أن يؤمن به كل بنـي آدم، ويوقنوا بأنه الوصف الملازم له سبحانه، الدال عليها الاسم العظيم وهو (الله)، وهو مستلزم لجميع صفات الكمال.
قال الشيخ عبد الرحمـٰن بن ناصر السعدي (رحمه الله) في بيان أهمية توحيد العبادة: «وهذا النوع زبدة رسالة الله لرسله، فكل نبـي يـبعثه الله يدعو قومه يقول: ﴿اعبدوا الله ما لكم مِن إلـٰه غيره﴾، ﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾، وهو الذي خلق الله الخلق لأجله، وشرع الجهاد لإقامته، وجعل الثواب الدنـيوي والأخروي لمن قام به وحققه، والعقاب لمن تركه، وبه يحصل الفرق بين أهل السعادة القائمين به، وأهل الشَّقاوة التاركين له، فعلى العبد أن يـبذل جهده في معرفته، وتحقيقه، والتحقق به، ويَعرف حَـدَّه وتفسيره، ويعرف حُكمه ومَرتبته، ويعرف آثاره ومقتضياته، وشواهده وأدلته، وما يقويه وينميه، وما ينقضه أو ينقصه، لأنه الأصل الأصيل، لا تصح الأصول إلا به، فكيف بالفروع؟»[8].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «ودين الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله، والثاني: أن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال الفُضيل بن عياض (رحمه الله) في تفسير العمل الحسن الوارد في قوله تعالى: ﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملا﴾، قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة»[9].[10]
وقال العلامة أحمد بن علي المقريزي[11] الشافعي (رحمه الله) في كتاب «تجريد التوحيد المفيد» ما نصُّه: «ولباب التوحيد: أن يَرى الأمور كلها من الله تعالى، ثم يقطع الالتفات عن الوسائط، وأن يَعبده- سبحانه- عبادة يُفرده بها، ولا يعبد غيره»[12].
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ضد توحيد الألوهية الشرك في عبادته تعالى، كعبادة القبور، بدعائها، والذَّبح لها، والنَّذر لها، والطَّواف بها، والتَّمسُّح بأعتابها طلبا للبركة منها، ونحو ذلك من الأفعال، فهذه من الأفعال الشركية التي تنقض إيمان العبد بأن الله وحده هو المستحق لأن يعبد دون ما سواه، وهو الـمُعبَّـر عنه بتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة.
***
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين. اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بشر فاشغَله في نفسه، ورد كيده في نحره. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المراجع
- رواه ابن جرير عن مجاهد في تفسير سورة النحل، 52، واختاره ابن كثير رحمه الله.
- «جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام»، ص 305-306، الناشر: دار عالم الفوائد، مكة.
- رواه البخاري (2856)، ومسلم (30).
- رواه البخاري (4761)، ومسلم (86)، واللفظ له، عن ابن مسعود (رضي الله عنه).
- رواه البخاري (6557)، ومسلم (2805)، عن أنس بن مالك (رضي الله عنه).
- ه البخاري (1496)، ومسلم (29).
- واه البخاري (6500)، وفي الباب عن أبي هريرة، رواه أحمد (2/309)، وصحح إسناده محققو «المسند» (13/448).
- «الحق الواضح المبين في توحيد الأنبياء والمرسلين» (الناشر: مكتبة المعارف- الرياض)، ص 56، 57 .
- رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/98).
- «مجموع الفتاوى» (28/23)، بتصرف.
- الشيخ أحمد من علماء مصر، درس الحديث والفقه، توفي سنة 845. انظر ترجمته في «إنباء الغمر»، و«البدر الطالع».
- ص45، تحقيق/ علي بن محمد العمران، ط دار عالم الفوائد، مكة.