البحث
بيان القسم الثالث من أقسام التوحيد_توحيد الأسماء والصفات
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى واحذروه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الإيمان بأسماء الله وصفاته له مكانة عظمى في العقيدة الإسلامية، فقد تمدح الله كثيرا في كتابه العزيز بأسمائه وصفاته، كقوله تعالى وكان الله سميعا بصيرا، وقوله وكان الله غفورا رحيما، وغير ذلك من الأدلة مما لا يحصى كثرة.
كما أثنى النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) على ربه في مواضع كثيرة من السنة الشريفة، ونَـــعَـــتَــــهُ فيها بنعوت الجلال وصفات الكمال.
والإيمان بأسـماء الله وصفاته يوجب للعبد خشيته، ومن ثَـمَّ عبادته على الوجه الذي يُرضيه، فإن الأمر كما قيل: (من كان بالله أعرف كان له أخوف)[1]، ولهذا كان العلماء بأسماء الله وصفاته هم أخشى الناس لله تعالى، كما قال تعالى }إنما يخشى الله من عباده العلماء{.
ولما كان الإيمان بأسماء الله وصفاته بهذه المكانة؛ وجب على المؤمن تحقيقه على الوجه المطلوب شرعا، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو في سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به.
أيها المؤمنون، إن تحقيق الإيمان بأسماء الله وصفاته على ما تقدم يقتضي أمرين؛ الأول: فَـــهمُها على ظاهرها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ودليل ذلك قوله تعالى ﴿ولله المثل الأعلى﴾، أي الوصف الكامل، وقوله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
والأمر الثاني الذي يقتضيه الإيمان الصحيح بأسماء الله وصفاته؛ الوقوف في أسماء الله وصفاته عند ما ورد في الكتاب والسنة، وعدم ابتداع اسم أو وصف لله لم يَــرِد في أحدهما، قال الإمام أحمد: لا يوصف الله بشيء أكثرَ مما وصف به نفسه عز وجل.[2]
عباد الله، وضِدُّ الإيمان بأسماء الله وصفاته الإلحادُ فيها، والإلحاد في اللغة هو الميل، ومنه سُـمِّي اللَّـحدُ في القبر لحدا، لأنه شَـــــقٌّ مائل إلى جانب القبر، وعليه فالإلحاد في أسماء الله وصفاته هو الميل في فهمها عن الفهم الصحيح الذي تقتضيه اللغة العربية، وفهم سلف الأمة.
والإلحاد أنواع عديدة، تدور كلها إما على تحريف المعنى الصحيح إلى معنًى غير مراد، أو إبطال المعنى بالكلية، وكل ذلك منافٍ للإيمان بأسماء الله وصفاته، ومن القول على الله بلا علم، ومن البدع التي اشتد نكير السلف الصالح وأتباعهم على القائلين بها، ومن المعاصي التي توعد الله فاعليها بالعذاب عياذا بالله، قال تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون، وقال تعالى ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا.
أيها المسلمون، وأشهر أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته هو التحريف، أي تحريف معانيها عن المعنى الحقيقي، الذي تقتضيه اللغة العربية وفهم السلف الصالح لها، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأتباعهم، الذين تلقوا فهمهم عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأنعِم به من فهم، والذين شَهِد لهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخيرية في قوله: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم[3]، ثم الذين يلونهم. فكلُّ ما خالف فهم الصحابة فليس من دين الله، بل هو منهج مخترع مُـحدث، ليس من الإسلام في شيء.
ومن أمثلة التحريف في فهم أسماء الله وصفاته تفسير صفة استواء الرب على العرش باستيلائه عليه، وجَـــحْـــدِ أن يكون معناه هو علوه على عرشه، تعالى الله جل وعز.
ومن أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته التكييف، وهو ادعاء معرفة كيفية صفة من صفات الله تعالى، وهذا حرام، فقد نفى الله العلم بإحاطة عباده بشيء من صفاته، قال تعالى ولا يحيطون به علما، ففي هذه الآية الكريمة قطع الله الطمع عن إدراك كيفية صفاته.
وقد أنكر أئمة السلف رحمهم الله على من طلب معرفة ذلك إنكارا شديدا، فقد جاء رجـل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله، (الرحمـٰن على العرش استوى)، فكيف استوى؟
قال الراوي: فأطرق مالك رأسه حتى عـلاهُ الرُّحَضَاء[4]، ثم قال: (الاستواء غير مجهول[5]، والكيف غير معقول[6]، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا)، فأَمر به أن يُـخرَج.[7]
قال ابن عثيمين رحمه الله معلقا على كلام مالك ما مُـحَصَّلُهُ إن كلام مالك ميزان لجميع الصفات، والذين يسألون عن كيفية الصفات سؤالهم هذا بدعة، لأن الصحابة أحرص الناس على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل من الصفات، ومع هذا لم يسألوا قط عن كيفية صفة من صفات الله عز وجل[8]. انتهى كلامه رحمه الله.
عباد الله، ومن أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته التشبيه، كمن شبَّه يد الرب بيد المخلوقين، تعالى الله عن مشابهة عباده.
قال نُـعَـيْم بن حماد الـخُزاعي – شيخ البخاري – رحمهما الله: من شبَّه الله بخلقه فقد كــفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه.[9]
أيها المؤمنون، إن فهم أسماء الله وصفاته كما جاءت بلا تحريف هو مما أجمع عليه المسلمون من علماء المذاهب الأربعة وغيرها، فقد قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني - صاحب أبي حنـيفة -: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في صفة الرب عز وجل من غير تفسيرٍ ولا وصفٍ ولا تشبيهٍ، فمن فَسَّر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) وفارق الجماعة، فإنهم لم يصِفوا ولم يُفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا.[10]
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: آمنـت بكلام الله على مراد الله، وآمنـت بكلام رسول الله على مراد رسول الله.[11]
وقال ابن تيمية رحمه الله: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رَوَوْه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأوليـن ما لا يحصيه إلا الله[12]. انتهى كلامه رحمه الله.
وقال ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى ﴿ثم استوى على العرش﴾: وأما قوله تعالى ﴿ثم استوى على العرش﴾ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح؛ مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان الـمُشبِّهين منفيٌّ عن الله، لا يُشبِهُهُ شيء من خلقه، و ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾، بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نُعَيم بن حماد الخزاعي - شيخ البخاري - قال: (من شبَّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه)، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص؛ فقد سلك سبيل الهدى. انتهى كلامه رحمه الله.
وقال عبد الرحمـٰن بن القاسم المالكي رحمه الله[13] قال: لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن، ولا يُشبِّه يديه بشيء، ولا وجهه بشيء، ولكن يقول: (له يدان كما وصف نفسه في القرآن، وله وجه كما وصف نفسه)، يقف عند ما وصف به نفسه في الكتاب، فإنه تبارك وتعالى لا مَثَل له ولا شبيه، ولكن هو الله لا إلـٰه إلا هو كما وصف نفسه، ويداه مبسوطتان كما وصفها ﴿والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه﴾ كما وصف نفسه[14]. انتهى كلامه رحمه الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن العلم بمعاني أسماء الله وصفاته له فوائد جمة على عقل العبد وقلبه وجوارحه، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضِيةٌ لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءَها لآثارِها من الخلق والتكوين، فلِكلِّ صفةٍ عبوديةٌ خاصةٌ، هي من موجِبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مُطَّرِدٌ في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح. فعِلْمُ العبد بتفرد الرب تعالى بالضُّر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة؛ يُثمر له عبودية التوكل عليه باطنا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرا.
وعِلمه[15] بسمعِه تعالى وبصرِه وعلمِه، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تُـخفي الصدور؛ يثمر له حِفظَ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يُرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياءَ باطنا، ويثمر له الحياءُ اجتـناب المحرمات والقبائح.
ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبرِّه وإحسانه ورحمته؛ توجب له سعة الرجاء، وتثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.
وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه؛ تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له أنواعا من العبودية الظاهرة هي موجِباتها.
وكذلك عِـلمه بكماله وجماله وصفاته العُلى؛ يوجب له محبة خاصة بمنـزلة أنواع العبودية. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها، فخلقُه سبحانه وأمرُه هو مُوجَبُ أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضاها[16]. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، الأئمة الحنفاء، وارض عن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم ما نزل بلاء إلا بذنب، وما كُـشِف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، اللهم ابسط الأمن في اليمن والعراق والشام وفلسطين وليبيا وغيرها من بلاد المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المراجع
- رواه محمد بن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (786) عن أحمد بن عاصم الأنطاكي.
- رواه القاضي أبو يعلى عنه في «طبقات الحنابلة» (1/386) في ترجمة حنبل بن إسحاق.
- رواه البخاري (2652) ومسلم (2533) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
- أي العرق.
- أي غير مجهول المعنى، بل هو معلوم، وهو العلو.
- أي غير معقول الكيفية، ولا تدركه العقول.
- رواه البيهقي في «الأسماء والصفات» (867، 866).
- بتصرف من «شرح العقيدة الواسطية» لابن عثيمين، (1/100).
- «العلو» رقم 464 .
- «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» للالكائي (3/480).
- ذكره عبد الله بن أحمد بن قدامة (620 هـ) في كتابه «ذم التأويل» (ص 222، 256).
- «مجموع الفتاوى» (6/394).
- هو الإمام عبد الرحمـٰن بن القاسم، قال عنه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (4/1149): أحد الأعلام، وأكبر أصحاب مالك القائمين بمذهبه ... توفي سنة إحدى وتسعين ومائة. انتهى.
- «أصول السنة»، ص 42، تحقيق أحمد بن علي القفيلي، الناشر: دار الفرقان – مصر.
- أي علم العبد.
- «مفتاح دار السعادة» (2/510-511)، تحقيق الشيخ علي بن حسن، ط دار ابن عفان - السعودية