البحث
صلة الأرحام
"النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا"
(الأحزاب، آية 6).
خلَقَنا اللهُ -عز وجل- بحكمته وتقديره، من نَفْس واحدة، وخلَق منها زوجَها، وبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، يلتقون في وشيجة واحدة، ويتَّصِلون برحم واحدة
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}
[الحجراتِ: 13]
وجعل لهذه الرحم حقا، وشرّع لها عبادة سماها "صلةُ الرحمِ".
وصلة الرحم صفةٌ كريمةٌ، تعلو بها المراتبُ، وتَحسُن بها العواقبُ، إذ أنها من أهم الشعائر الاجتماعية التي أمر بها الإسلام، وحث عليها أتباعه من أجل الحفاظ على الأسر والمجتمعات من الانهيار، ليصير بهذه التشريعات مجتمعا قويا.
وقوة المجتمع لها عوامل عدة من أهمها "صلة الأرحام"، فهي من أهم العوامل التي تعمل على إنشاء مجتمع متصف بصفات القوة، فيكون مجتمعا منيعاً، بصلة الأرحام التي تقوّى روابط المودة والأخوة، وتزرع المحبة بين أفراد المجتمع فيصير هذا المجتمع قلعـة صامدة، وينشأ عن ذلك أسر متماسكة، وبناء اجتماعي متين يمد العـالم بما يحتاجه من قادة وموجهين ومفكرين ومعلمين ودعـاة ومصلحين، فيخرجون للعالم يحملون مشاعل الهداية ومصابيـح النور إلى الناس أجمعين.
وقبل الكلام عن أهمية تلك العبادة المهمة، لابد أن نعلم من المقصود بإطلاق لفظ الأرحام عليهم، لنطبقها معهم.
ولذلك يقول رسول الله ﷺ:
((ليس الواصل بالمكافئ))
فكل الأقارب من جهة الأب والأم إن علوا وإن نزلوا، هم أرحام، وكذلك الحواشي كلهم يدخلون في الرحم.
هذا هو المراد بالأرحام، فما معنى صلتهم؟ ما معنى صلة الرحم الواردة في القرآن والسنة؟
لكن الصلة أنك تأتي إلى أحد أقاربك الذين قطعوك فتصلهم أنت، وهم لم يحسنوا إليك ولم يبروك، هذا معنى الصلة.
فلذلك يقسم العلماء الناس في صلة الرحم إلى ثلاثة مراتب:
فانظر الآن كيف ترتقي الشريعة بأصحابها إلى الهمة العالية في الوصل، ليس المطلوب أن ترد الجميل في الدرجة الأولى.الأعلى من كذا أنك أنت الذي تصل أولاً، هذا هو المعنى في صلة الرحم، فإذا وصلت من قطعك، وأعطيت من حرمك، وعفوت عمن ظلمك من أقاربك، فتعتبر واصلاً،
وبقليل من تأمل الآيات الواردة عن صلة الرحم، يجد أن القرآن الكريم تدرّج في ذكر صلة الرحم كسلوك أخلاقي وإنساني رفيع، ينبغي أن تتسم به الإنسانية عبر الزمان، وهو مفتاح من مفاتيح التواصل الحضاري والبشري بين الأمم والشعوب.
فنجد الله افتتح الآية في خطاب البشرية كافة، حيث ضمن الله -عزوجل -تحت الخطاب العام للبشرية أنه يخص المسلمين عندما ربط صلة الرحم بتقوى الله
قال تعالى:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا"
(النساء 1).
وهذا الأمر الإنساني السامي الذي يدعو إليه الإسلام، يتطابق،
مع قوله تعالى:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"
(الحجرات:13)
لتؤكد أهم ثمرة من ثمرات صلة الأرحام، ألا وهي تحقيق التواصل والتعارف، وإن كان سياق الآية أعم واشمل، حيث يعنى بالدرجة الأولى التواصل بين الأمم والشعوب المختلفة، ولكن صلة الرحم هي جزء لا يتجزأ من المعنى و المضمون الشامل الذي تقصده الآية القرآنية السابقة.
ثم ذكر الله تعالى في آية الوصايا في سورة النساء الأمر بصلة الرحم
فقال سبحانه:
{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء: 36]
فأمر بالإحسان إلى ذي القربى. ومدح الله قوماً في القرآن
فقال:
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}
[الرعد:21]
فقال:
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}
[الرعد: 25]
والمراد بما أمر الله به أن يوصل: صلة الرحم.
ثم نلاحظ تتابع الآيات القرآنية في مجملها أنها تحث على صلة الرحم، وأنه سلوك يفعله المهاجرون والأنصار، والرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته مع بعضهم البعض، وأن من يصل رحمه سواء الأقارب من المحارم، أم الأقارب غير المحارم، ينال الجزاء
فيقول جل شأنه:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"
(الأنفال، آية 75).
"وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ"
(البقرة، آية 21).
"النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا"
(الأحزاب، آية 6).
الشمس في كبد السماء حينما أكد -كما مر الآن -في أكثر من سياق قرآني، تكريس رابطة المحبة والأخوة من خلال صلة الرحم، كعامل جوهري يحقق الألفة والمودة بين الأسر والأفراد والمجتمع، فقد تكررت هذه الصيغة
"وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ"
في أكثر من آية حيث تكررت -كما سبق -في الآية 75 من سورة الأنفال، كما تكرر ذات السياق في الآية 6 من سورة الأحزاب.
وعندما نذهب إلى الآية 21 من سورة الرعد سنرى هناك أفعالًا وسلوكيات ذكرها القرآن الكريم، كصفات تخص المؤمنين، كالوفاء بالعهد، وهو طاعة الله، واجتناب معصيته، والالتزام بعبادته، وعدم نقض الميثاق، أي: عهد البشر فيما بينهم مرتبطا بالعهد مع الله عزوجل، والعهد والميثاق بينهم ترادف في المعنى.
أما قوله تعالى:
"وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ
"، فالأمر بالوصل الذي يريده الله عزوجل هو صلة الأرحام وعدم الانقطاع عنها، كما ذكر بعض المفسرين كالقرطبي، وأن مما أمر الله به ((حق الرحم، والجار، والعشرة، وحق المؤمنين وموالاتهم وإثارهم، والتودد إلى الناس، وعيادة مرضاهم، واتباع جنائزهم....)).
ثم تستمر الآيات في ذكر الصفات والخصال المختلفة للمؤمنين كالخوف من الله عزوجل وإقامة الصلاة والانفاق سرا وعلانية وتأتي الآية التي بعدها توضح جزاء ومصير المؤمن الذي يقوم بهذه الأفعال والسلوكيات والتي من ضمنها صلة الأرحام
قال تعالى:
"أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ"
أي الذي يحافظ على هذه الحقوق والتي منها(صلة الأرحام) لهم جزاء وثواب حسن في دار الآخرة وهو الجنة، وأن هذه الجنة يدخلها الصالحون من ذريتهم وأهلهم، والشرف الكبير أن تدخل الملائكة على من اتصف بعدد من هذه الصفات -منها صلة الرحم -من عدة أبواب وتهنئهم وتبارك لهم الدخول للجنة:
{جَنَّٰتُ عَدنٖ يَدخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِن ءَابَائِهِم وَأَزوَجِهِم وَذُرِّيَّتِهِم وَ المَلاَئِكَةِ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِّن كُلِّ بَاب}.
وهنا ترسيخ في غاية الأهمية حول ضرورة صلة الرحم وأن فاعلها جزاؤه الجنة
وإذا انطلقنا من هذه الآيات الكريمة لنرى العواقب الوخيمة التي تصاب مجتمعاتنا من انقطاع زيارات الأرحام والأقارب؛ فهي بلا شك تكشف تفكك أواصر المجتمع فترى هناك من هو المريض على الفراش ومن هو المديون بسبب مستلزمات الحياة ومن يعاني من الأمراض المزمنة ومن لديه ضعف في الحالة المادية بسبب غلاء المعيشة وغيرها من الأزمات، ومن هنا جاء التعبير القرآني دقيقا في ربط قطع الأرحام بانتشار الفساد في الأرض فكم من حالات السرقة حدثت نتيجة إهمال المجتمع حالات ذوي القربى وعدم السؤال عن أحوالهم حتى يقع الفأس في الرأس وكم من حالات الحبس حدثت بسبب تعفف الأسر وغياب سؤال الأرحام والأقارب عن جيرانهم وأهلهم حتى تصل الأنباء أن فلان حبس بسبب الديون وبسبب أنه سرح من العمل وعليه ارتباطات والتزامات فدرء المفاسد أولوية شرعية حتى على حساب المصلحة؛ فمن هنا النهي عن قطع الأرحام كان حازما وهو قطع ذريعة انتشار المفاسد في الأرض كالقتل والسرقة والتسول وارتكاب الموبقات ..... إلخ.
فصلة الرحم لها دور محوري في تقوية المجتمع وتماسكه، كما أنها تقوي رابطة النسب والدم علاقة طيبة مباركة كما ربط الإسلام من يزور أقاربه سواء من حيث الجوار في السكن أو قرابة النسب بالإيمان بالله عزوجل والحساب في يوم الآخرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ"
كما أن من فوائد صلة الرحم تبارك في رزق الإنسان من حيث لم يحتسب وهي من الأعمال النافعة التي ينبغي الإنسان يدرجها ضمن أوقاته وجدول حياته كما أنها تمنح البركة في عمر الإنسان أي يطيل الله في عمره فيقضي أوقاته بما ينفعه في الآخره من الطاعات والأعمال الصالحة وهذا من توفيق الله وبركة المحافظة على زيارة الأهل واعانتهم في قضاء حوائجهم ومساعدة جيرانه وأقاربه حيث عبر الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه:
"مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"
وعلاوة على البركة في العمر والرزق فإنها تربي النفوس وتهذب القلوب على البذل والعطاء في سبيل خدمة الآخرين فكم من زيارة فرجت كربة مهموم وأصحت سقيم من سقمه ورسمت البهجة والسرور في عائلة معسرة وهم من ذوي القربى والنسب كما أن صلة الرحم تربي الأجيال والأبناء وتنشئهم على ضرورة التواصل والتفاعل مع مختلف فئات المجتمع والتفاعل مع من له صلة القرابة والنسب على وجه الخصوص فينبغي على كل ولي أمر أن يصحب ابنه لزيارة أهله وأقاربه وأرحامه كي يغرس في ابنه هذه القيم النبيلة ويحافظ عليها ويداوم الاستمرار عليها وهذا سبب جوهري في صرف الابن عن الانطواء والابتعاد عن العالم الافتراضي (الإدمان على الألعاب والمواقع الإلكترونية).
كما أن مداومة الابن والاستمرار في زياراته لأهله وأرحامه تكسب الابن تجارب الحياة من كبار السن فيتعلم ضرورة الصبر عند النوائب والعفو والصفح عن المسيء ويثمّن النّعم التي هو يعيشها الآن، وحجم المعاناة ومقاساة الدهر التي تكبّدها أباءه وأجداده الأولين.
كل هذه الفوائد نبعت من غرس عبادة صلة الرحم لدى الأبناء منذ صغرهم فيصبح، الابن يافعا نافعا مفيدا لنفسه وأهله.
كما أن صلة الرحم هي جسر العبور وحلقة الوصل والترابط بين الجيل الحالي والجيل السابق فيصبح الابن مدركا عارفا نسب أباءه وأجداده حافظا لها َكل هذا يأتي بالزيارات والجلوس مع كبار السن الذين لهم صلة النسب والقرابة.
وأخيرا.. فإني أذكر نفسي وكل فرد مسلم بهذا الحديث القدسي الذي يكشف مكانة صلة الرحم في الإسلام فقد روي في مسند الإمام الربيع بن حبيب الفراهيدي
بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"قال الله تعالى: من وصل رحمه فقد وصلني، ومن قطع رحمه فقد قطعني"
أي كل من يصل رحمه سواء كان ماديا كالأنفاق أو معنويا كمشاركتهم في الأفراح والأحزان وزيارتهم ومراسلتهم فمن وصل رحمه يوصله الله عزوجل بأن ينال رحمته وتوفيقه وهدايته وثَوابه ومن قطع رحمه يقطع الله الوصل عنه فيجزيه العقاب ولا يدخله الجنة.