1. المقالات
  2. أمهات المؤمنين
  3. آخر لؤلؤة في عقد النبوة.. سرّ ميمونة بنت الحارث

آخر لؤلؤة في عقد النبوة.. سرّ ميمونة بنت الحارث

تحت قسم : أمهات المؤمنين
35 2025/08/11 2025/08/21

                                                        " بعض الأرواح تُشرق بعد رحيلها فتُعلمنا أن البركة لا تفنى بموت أصحابها "

في رحلة من مكة إلى المدينة، كانت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تمضي بثبات، تحمل في قلبها إرث النبوة، وتُجسّد في أفعالها معاني التقوى والعدل. 

وبينما كانت في طريقها، التقت بابن أختها محمد بن طلحة بن عبيد الله، ومعه يزيد بن الأصم، ابن أخت أم المؤمنين ميمونة. 

لكن سرعان ما اكتشفت أنهما قد أكلا من ثمار بستان دون إذن صاحبه، فانطلقت كلماتها الحازمة، لا مجاملة فيها ولا تهاون، تؤدب ابن أختها أولًا، ثم تلتفت إلى يزيد مخاطبةً إياه بلهجة تهتز لها القلوب:

"أما علمت أن الله تبارك وتعالى ساقك حتى جعلك في أهل بيت نبيه؟" أيها الذي بسط يده على أموال الناس، أما تذكرت أن الله قد خصّك بنعمةٍ عظيمة، فجعل خالتك زوجة رسول الله ﷺ؟!

ثم أطلقت عبارتها التي حملت في طياتها معنى التوجيه الصارم والحزن العميق: "ذهبت والله ميمونة، ورُمي برسنك على غاربك!" لقد رحلت خالتك ميمونة، فانفلت زمامك، ولم يعد هناك من يمسك بلجامك أو يرشدك إلى الصواب، فصرت تتصرف بلا رقيب، بلا معلم، تعيث في الأرض فسادًا بعد وفاة من كانت لك أمًّا ومربية.

ثم وقفت شامخة، تشهد شهادة عز وفخر لأختها وضرتها، شهادةً تبقى محفورة في صفحات التاريخ، حتى نلقى الله: "أما أنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم!" (1)

ولم تكن شهادة أم المؤمنين وحدها هي التي أنصفت ميمونة، بل سبقها النبي ﷺ، إذ شهد لها بالإيمان، وأنزل الله في شأنها قرآنًا يتلى آناء الليل وأطراف النهار، ليظل اسمها خالدًا في سجلّات الإيمان.

بين يديك الآن قصة امرأة لم تحمل سيفًا، لكنها فتحت أبواب القلوب إلى السماء.

اقرأ سيرتها كما تقرأ خريطة نجاة، وتأمل خطاها كما يتأمل المسافر درب الضوء في صحراء التيه.

فربما، في قلب قصتها... تجد المفتاح الذي كنت تفتش عنه طويلاً، مفتاح الإنسان الذي يريد أن يترك أثرًا لا يُمحىولو بعد مئات السنين.

1- الرسن: الحبل الذي يُقاد به الفرس

2- غاربك:أعلى مقدم السنام في البعير

حين تنكسر الأحلام لتنهض الأرواح

بلغت بَرَّة سنّ البلوغ، فودّعت طفولتها بابتسامة، مودّعة معها عالم الصِّبا لتستقبل مرحلة جديدة، مرحلة التأهيل لحمل مسؤولية جيل يحمل اسمها.

لم يمضِ وقت طويل حتى تقدّم لها خاطبٌ غريبٌ عن ديارهم، لكنه لم يكن مجهولًا، بل كان معروفًا بين سادات قومهم، إنه مسعود بن عمر الثقفي، أحد وجهاء ثقيف في الطائف.

تهيأت بَرَّة لوداع بيتها وبلدتها، لتنتقل إلى حياة جديدة لا تدري ما يُخبئه لها القدر. 

تعاقبت الأيام وتوالت السنون، وعادت إلى موطنها، لكن هذه المرة لم تكن عودة زوجة سعيدة، بل امرأة انفصلت عن زوجها، تحمل في قلبها آثار تجربة لم تدم طويلًا.

ورغم أنها كانت امرأةً جلِدة، تعارك الأيام فتغلبها، إلا أن فراق زوجها ترك في نفسها أثرًا لا تخفيه ملامحها، فالحياة لا تسير دومًا وفق ما نشتهي. ولكن، لم يطل الحزن، فقد أضاء بيتها فرحٌ جديد، حين اقترنت بـ أبي رهم بن عبد العزى العامري، ليمنحها فرصة أخرى للحياة الزوجية، وليعيد إليها شيئًا من الاستقرار الذي فقدته.

غير أن الفرح لم يدم طويلًا... ففي لحظة خاطفة، رحل عنها كما جاء، لكنه لم يكن وداع زوج لزوجته فحسب، بل وداع إنسان للحياة بأكملها.

 مات، وتركها تواجه مصيرها وحدها، وهي لا تزال شابة في مقتبل العمر، ولم تتجاوز العشرين. (2)

ابتلاءات تتوالى، تُصبّ على رأسها كما يُصبّ الماء على حجرٍ أملس، لكنها لم تكسرها. فقد كانت تعلم في قرارة نفسها أن الله، حين يختبر عبده، يخبئ له وراء الألم فرحًا، ووراء الصبر فرجًا. 

فهل كان ذلك آخر امتحان لها؟ أم أن القدر كان يخبئ لها شيئًا أعظم مما تتخيل؟

حينما تكون التربية جهادًا: دور المرأة في بناء الأمة

سطع نور التوحيد في أرجاء مكة، ولامس بريقه القلوب الباحثة عن الحق، وكانت بُرّة من أوائل المبادرين إلى الاستضاءة بهذا النور. لم يكن الاختيار صعبًا، فالفرق بين ظلمة الكفر الحالكة، وضوء الإيمان الوضّاء يُدركه حتى الصغار!

لكن بُرّة لم تكن وحدها في هذا الطريق، فقد سبقها إليه قلب والدتها، ولحقت بها أخواتها، ليكنّ جميعًا في مقدمة الصفوف، ليس فقط في اتباع النبي ﷺ، بل في خدمة الإسلام بأسمى وأعظم الطرق!

أتدرون كيف خَدَمن دينهن؟

هل خرجن إلى ساحات القتال، يحملن السيوف ويقدن الجيوش؟

لا.

هل حملن العلم ودرّسنه في الأمصار والبلدان؟

لا.

هل ترأسن  قيادة المدن والأمصار؟

لا.

بل كنّ أمهات، وزوجات، وأخوات، ومربيات! خرّجن أجيالًا بذلوا الغالي والنفيس لرفعة الإسلام.

 أختها سلمى بنت عميس – زوجة أسد الله وأسد رسوله، حمزة بن عبد المطلب، الذي كان يرتعد منه صناديد الكفر. (3)  أختها لبابة بنت الحارث – أم القائد العظيم، خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، الذي أذلّ جيوش النصارى والمجوس. (4)   أختها أم الفضل بنت الحارث – أم أنس بن مالك، خادم رسول الله ﷺ، الذي نقل للأمة (2,286) حديثًا من نور النبوة. (5)

لم يحملن السلاح، لكنهن ربّين من قاد الجيوش وانتصر للإسلام. لم يكنّ فقيهات، لكنهن وهبن للأمة رجالًا أضاءوا بلاد الإسلام بعلمهم. لم يخرجن في الفتوحات، لكنهن أعددن رجالًا خرجوا شرقًا وغربًا ينشرون رسالة الأنبياء. 

ولهذا استحققن شهادة الفخر من أعظم من شهد، النبي ﷺ نفسه! إذ قال عليه الصلاة والسلام: "أخوات مؤمنات: ميمونة بنت الحارث، وأم الفضل بنت الحارث، وسلمى امرأة حمزة، وأسماء بنت عميس." (6) رواه النسائي في السنن الكبرى.

ميمونة قصة فتاة طمحت أن تكون أماً للمؤمنين.

في يوم من الأيام، قررت السيدة ميمونة زيارة أختها أم الفضل لتعودها وتطمئن عليها. كانت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، عمّ النبي ﷺ، الرجل الذي احتل مكانةً خاصة في قلب سيد الخلق، حتى قال عنه النبي ﷺ:

"من آذى العباس فقد آذاني!" (7)

كانت ميمونة حينئذ في ريعان شبابها، بينما كان النبي ﷺ قد بلغ من العمر تسعة وخمسين عامًا، بفارق ثلاثة وثلاثين عامًا بينهما. وفي بيت النبوة، كانت ثماني زوجات، كل واحدة منهن لها مكانتها في قلب الرسول، لكن ذلك لم يُقلّل من طموح ميمونة، بل زادها شوقًا لأن تكون واحدة من أمهات المؤمنين.

لم يكن زواجها مجرد ارتباط عادي، بل كان حلمًا طموحًا، تجاوز الأعمار والمقاييس، طموحًا بلغ عنان السماء، ليجعلها واحدة من أعظم النساء في الإسلام!

لم تتردد كثيرًا، فكان العباس نفسه وكيلها في هذا الزواج المبارك، ليخطبها للنبي ﷺ، فتبدأ صفحة جديدة في حياتها، كزوجة لخاتم الأنبياء.

النهاية السعيدة تولد من رحم الصبر.

كان النبي ﷺ، ومعه ألفان من أصحابه، سوى النساء والصبيان، يستعدون لأداء مناسك العمرة، العمرة التي مُنعوا منها من قبل، فأتمّوها هذه المرة بنصرٍ من الله، بعد أن حجبتها صناديد قريش عنهم.

وبعد انقضاء عمرة القضاء، عمّت الفرحة بين المهاجرين والأنصار، كيف لا، وقد نُصرت كلمة الله وعادوا إلى مكة مهلّلين مكبّرين! لكن فرحةً أخرى كانت في انتظارهم، زواج النبي ﷺ من ميمونة بنت الحارث، في موضعٍ قريبٍ من مكة يُدعى سَرِف. (8)

في ليلةٍ واحدة، تحوّلت ميمونة من أرملةٍ مسكينةٍ أنهكتها الأيام، إلى أمٍّ من أمهات المؤمنين!

لحظة صمت وتأمل.. كيف كان قلبها يخفق وهي ترى نفسها في بيت النبوة؟! كيف كان شعورها وهي تنظر إلى النبي ﷺ، وترى النور في عينيه، وتشعر بقربه، بعد سنواتٍ من الألم، والفراق، والاضطهاد؟

لم يكن زواجها مجرد حدثٍ عابر، بل كان خاتمة التتويج لسيدات بيت النبوة، فقد كانت آخر زوجة للنبي ﷺ، آخر حبّةٍ في عقد اللؤلؤ الطاهر، آخر امرأةٍ اصطفاها الله لتكون زوجةً لأعظم الخلق.

وكأنها رسالةٌ ربانية، أن البلاء مهما اشتدّ، فإن بعده فرجًا، وأن من يصبر على المحن، يرزقه الله أضعاف ما كان يحلم به.

في ظلال النبي ﷺ.. كيف تربى ابن عباس ليكون ترجمان القرآن؟

كانت حياة ميمونة مع رسول الله ﷺ نموذجًا للبيت الذي تنبض أركانه بالإيمان، ويزدهر في ظلال الإسلام. لم تكن مجرد زوجة في بيت النبوة، بل كانت روحًا حانية، وأمًّا عطوفة، وصاحبة قلبٍ يسع الجميع.

من بين من طرق بابها صغيرًا، واستظل بظلها، ونهل من معين علمها ابن أختها عبد الله بن عباس، الذي كان ضيفًا دائمًا في بيت النبي ﷺ. كان يبيت في رحاب النبوة، يراقب كل حركة، ويفقه كل سكنة، ويتأدب مع كل كلمة، حتى غدا عقلًا متوقدًا، وقلبًا متعطشًا للعلم، وأذنًا تنصت لكل حكمة. (9)

لم يكن يعلم حينها أن تلك الليالي المباركة ستكون بداية مسيرته في العطاء، وأنه سيصبح يومًا ما "حبر الأمة" وترجمان القرآن!

لكن وراء هذا العطاء المتدفق، كان هناك قلبٌ صبور، ويدٌ ممدودة بالعطف، وروحٌ تحتضن العقول الصغيرة قبل الأجساد الضعيفة. كانت ميمونة رضي الله عنها مدرسة في الحلم والحنان، احتضنت ابن أختها، وأعطته من وقتها، ولم تتضجر من كثرة أسئلته، بل فتحت له أبواب النور، وأهدته إلى مجالسة رسول الله ﷺ، فكان ما تعلمه في كنفها سببًا في أن يكون من أعظم علماء الأمة.

وهكذا، كان كل حرفٍ علّمه ابن عباس، وكل تفسيرٍ نُقل عنه، وكل حديثٍ وعظ به الأمة، في ميزان حسنات خالته ميمونة.. فهل هناك إرثٌ أعظم من هذا؟

قصص قصيرة في الأرض.. لكنها خالدة في السماء

مما حرّك وجداني وأيقظ تأملاتي، وأنا أعدّ نفسي للكتابة عن أم المؤمنين ميمونة، وقبلها أم المؤمنين زينب بنت خزيمة، أن كلتيهما كانتا صاحبتي روحٍ لطيفةٍ في هذه الدنيا؛ رحلتا عنها في هدوء، دون ضجيج، دون أن يُنقل عنهما الكثير من الحديث، لكن صمتهما لم يكن فراغًا، بل كان امتلاءً باليقين وحب الله.

لم تكن حياتهما طويلة مع النبي ﷺ، فقد عاشت ميمونة في بيت النبوة ثلاث سنوات وأربعة أشهر فقط، بينما زينب بنت خزيمة لم تعش معه ثلاث سنوات، بل ثلاثة أشهر فقط! (10)

رغم ذلك، فقد خُطّ اسماهما في اللوح المحفوظ، زوجتين لخاتم الأنبياء، إلى أبد الآبدين، في الفردوس الأعلى من الجنان.

من الظاهر، تبدو قصتهما قصيرة، لكن عند الله، كان الاصطفاء هو الدليل على أن القلوب التي تسكنها الطمأنينة كانت تضج بحبٍ عظيم... حبٍ لا يعلمه إلا من اصطفاهما!

شاء الله أن تكون نهاية ميمونة حيث كانت بدايتها... هناك، في الموضع الذي جمعها برسول الله ﷺ زوجةً ومحبوبةً، ختمت رحلتها من الدنيا سنة إحدى وخمسين للهجرة، وقد جاوزت الثمانين عامًا.

صلى عليها ابن عباس، ودخل قبرها أبناء أخواتها ومن نشأ في حجرها، يطوون صفحة عمرٍ كان خفيًا عن الأعين، عظيمًا عند الله.

في قصتها، رسالة لكل من تأخر حلمه، وضعُف صبره، وانكسر قلبه:

أن الطريق إلى الله لا يُقاس بطول المسير، بل بصدق النية وقوة التعلّق به.

وأن الأحلام التي تُروى بدموع الصابرين، لا تموت، بل تزهر ولو بعد حين.

وأن كل ألم، إذا حُمل في سبيل الله، يكتب عند الله صبرًا لا يضيع، وأثرًا لا يزول.

فامضِ كما مضت ميمونة، بقلبٍ يعرف أن الله، وإن أبطأ نصره، فإنه لا ينسى عبده إذا بكى، ولا يرد قلبًا صدق في السير إليه.


المراجع

  1.  الراوي : الحاكم - كتاب الموسوعة العقدية - الجزء السابع - صفحة 415
  2. سير أعلام النبلاء - الذهبي - الجزء الثاني - صفحة 329
  3. سلمى بنت عميس
  4.  لبابة بنت الحارث 
  5. أم الفضل بنت الحارث
  6.  الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم : 2763
  7. الراوي : عبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث | المحدث : ابن حجر العسقلاني | المصدر : هداية الرواة | الصفحة أو الرقم : 5/452
  8. زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة رضي الله عنها الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 745
  9. أعمار أمهات المؤمنين حين بنى بهن النبي صلى الله عليه وسلم 


المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day