1. المقالات
  2. صُناع السلام
  3. أمير الفقراء

أمير الفقراء

تحت قسم : صُناع السلام
8 2025/10/27 2025/10/28

المقدمة:

"دموع عمر بن الخطاب تكشف حقيقة أمير الفقراء"

سَافَر خَلِيفَة المؤْمنين عُمَر بْن الخطَّاب إِلى الشَّام لِيتفَقَّد أَحوَال رَعيتِه فِيهَا، وعنْدَمَا وصل إِلى حِمْص أَمْر أَهلها أن يَكتُبوا لَه أَسمَاء جميع فُقرائهم، حَتَّى يَسُد لَهُم حَاجتِهم.

فكتبوا لَه جميع الأسْماء؛ وعنْدَمَا تَفقدَها إِذ بِه يَقرَأ اسْم رَجُلٍ فِيهَا يُسمَّى سعيد بْن عَامِر؛ فتعجّب عُمَر وسألَهم:"مَن سعيد؟"

فقالوا:"سعيد بْن عَامِر الجُمحي أميرُ دَولتِنا الذي ولَّيْته عليْنَا!"

فَتعجّب عُمَر وَقَال:"أميركم مِن الفقراء؟"

فقالوا:"إِنَّه لَتَمر عليْه الأيَّام الطِّوَال ولَا يُوقَد فِي بَيتِه نار!"

فأجْهش عُمَر فِي البُكاء حَتَّى بلّ لِحْيته! (1)

فَمَن يَا تُرَى هذَا الأمِير الزَّاهد الذِي يَتَربَّع  قَائِمة فُقَراء دَولَة هُو حاكمهَا؟

ومَا هُو المشْهد الذِي رآه وانْقلبتْ بعْدهَا مَوازِين حَياتِه ودنْيَاه حَتَّى صار مُنْذ صِبَاه مِن الصَّحابة الذين لَهُم شَأْن وَقامَة فِي الإسْلام؟

هذَا مَا سَنعرِفه فِي هَذِه الحلْقة..

"أسد الإسلام خُبَيب: ثباتٌ يزلزل قلوب الطغاة"

كَانَت البداية عِنْدمَا نَادَى زُعَماء قُرَيشٍ إِلى كُلِّ أَهْل مَكَّة بِالخروج لِيروْا الأسد الأسِير الذِي أَسرُوه بعْدمَا جَهّزُوا مَكِيدَة لَه وخانوه.

وهُو خُبَيب بْن عَدِي؛ لِيتَشفوا بِه مِن الخسارة الوخيمة التِي أُحلَّت بِهم فِي غَزوَة بَدْر، بعْدمَا انتصَر المسْلمون عَليهِم وَهُم لَا يتجاوزون 313 مُسْلِم مُقَارنَة بِأَلف مُشْرِك؛ فِي هَزِيمَة لَم يروْا مَثلَها.

فقاموا بِالإتْيان بِه على أَعيُن النَّاس قَاصدِين ذُلَّه، فَشَاء اللَّه أن يُنكِّس عَليهِم مَا أرادوه، وَإِذ بِالأسَد الأسِير لَا يَرتَعِد له جَفْن ولَا يَهتَز لَه طرف أمامَهم، وَيقُول لَهُم وَهُو يَقِف على خَشبَة الصَّلْب بِكلِّ ثَبَات وَهدُوء: إنَّه يُريد أن يُصلِّي ركْعتَيْنِ لِلَّه قَبْل أن يَمُوت.

فَصلَّى لِلكعْبة وَهنَا كان المشْهد الذِي بَدأَت معه فِطْرَة سعيد بْن عَامِر تَلتَهِب عليْه، عِنْدمَا سَمِع خُبَيب يَقُول بَعْد أن أَنهَى ركْعتَينِ لَم يرَ أحدًا يُصلِّي بِمَثل طمائنينَتهمَا:

"وَاَللَّه لَولَا أن تظنُّوا أَنِّي أَطَلت الصَّلَاة جزعًا (خوْفًا) مِن الموْتِ لَاسْتكْثرتْ مِن الصَّلَاة."

ويْكأَنَّه يَقُول:"أنَا لَا أَخشَى الموْتُ بل أسْتقْبله اسْتقْبالًا!"

فموْتٌ شريف خَيْر لِي مِن حَيَاة ذَلِيلَة!

ولَا ذُلَّ أشدّ علىّ من الكُفر؛ هَذِه هِي عَقِيدَة المؤْمنين.

"سعيد بن عامر: من شاهد على الظلم إلى بطل للإسلام"

لَم تَكُن هَذِه الصَّدْمة الوحيدة لِسعيد بل كَانَت الصَّدْمة الحقيقيَّة عِنْدمَا صَعَّد خُبَيب إِلى خَشبَة الصّلْب وَبدَأ الكُفار يقوموا بِتقْطِيع جَسدِه قِطْعَة قِطْعَة مع صَوْت ضِحْكَات نِسائِهم وأوْلادهم، وِخُبيب يَتَدفَّق دَمُه يمينًا ويسارًا مِن شِدَّة التَّعْذيب، وَكثْرَة الرِّمَاح والسِّهام الملْقاة فِيه!

ثمَّ وَإذْ بِالكفَّار يقولون لَه فِي ظلَّ كُلّ هذَا الألم:"أَتحِب أن يَكُون مُحَمدًا مَكانَك وأنْتَ ناجٍ؟"

بِالطَّبْع تَوقَّع الجمِيع أن يَقُول: نعم!

لَعلَّه يَنجُو بِمَا تَبقَّى مِن بَدنِه وَيرجِع إِلى أَهلِه!

وَلكِن حدث عَكْس ذَلِك؛ فَقَال والدِّماء تَنزِف مِن جَسدِه والرُّوح تَتَسلَّل مِن بَدنِه:

"وَاللَّه مَا أحِبّ أن أَكُون آمنًا فِي أَهلِي وَولَدِي وأنَّ مُحَمدًا يُوخز بِشوْكة!"(2)

بَعْد كُلِّ هذَا الألم وَهذَا التَّعْذيب الذِي تَشِيب لَه الولْدان، لَا تُحِب أن يَكُون مُحَمدًا مُصَابًا بِشوْكة غَيرَ أن يَكُون مكانك!

مَا هَذِه العقيدة التِي غَيرَت هَذِه النُّفوس التِي كَانَت مِن قَبْل تبيع أَهلَها وديارهَا كُلهَا لِأَجل بِضْع مِن الدُّنْيَا؟

وَمِن هذَا النبِي الذِي يفْديه أصْحابه بِأمْوالهم وأنْفسهم وأوْلادهم ولَا يتحمَّلون أن تُصيبه ولو ألم شَوكَة وَاحِدة؟

شجاعة معلنة: إعلان الإسلام دون خوف

أحسَّ سعيد مُنْذ هذَا المشْهد مدى حَقارَة الجاهليَّة، وَمدَى سَوَاد نُفُوس المشْركين، وَمدَى طَهارَة وَنَقاء أَصحَاب مُحمَّد وأتباعه...

فَكَان قَتْل خُبَيب سببًا فِي إِسلَام سعيد؛ وَلكِن مَاذَا فعل سعيد؟

هل قام بِكَتم إِسْلامه وسافر سِرًّا حَتَّى لَا يُلْحِق بِنفسه الأذى مِثْل مَا لَحِق بِخُبيب والمسْلمين مِن قَبله مِمَّن لَا رَحمَة فِي نفوسهم، ولَا عَقْل فِي قلوبهم؟

لَا؛ بل هُو أيْضًا بَعْد عُمْران الإيمان فِي قَلبِه، وَرسُوخ العقيدة فِي صَدرِه ارتوَى مِن نَفْس كَأْس الشَّجاعة التِي ارتوَى مِنهَا خُبَيب حَتَّى سَكنَت نَفسُه، وقويتْ رُوحُه وَهُو لَا يَزَال شابًّا يَافِعًا أَوشَك على البُلوغ.

انْظُروا مَاذَا فعل، ذهب فِي مَكَان يَجتَمِع فِيه كُفَّار قُرَيش ثُمَّ قام فِيهم يَقُول لَهُم إنَّه أَصبَح مُسْلِما وَتَبرَّأ مِن عِبادة آلهتِهم واتِّبَاع كُفْرِهم!

وَشهِد أن لَا إِله إِلَّا اللَّه وأنَّ مُحَمدًا رَسُول اللَّه!

وإنّه ذَاهِب لِيقابل رَسُول اللَّه!

ولم يَستَطِع وَاحِدٌ مِنْهم أن يمْنعه وَهُو الشَّابُّ اليافع الفَتِيّ.

وعنْدَمَا ذهب لِلنَّبي ﷺ، كان قد أَوشَك المسْلمون على الخُروج فِي غَزوَة خَيبَر؛ فلم يَلبَث إِلَّا أن خرج مَعهُم، وقاتل بِكلِّ بَسالَة!(2)

لَيْس فِي حَرْب وَاحِدة بل فِي كُلِّ حُرُوب النبِي -صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم-.

حَتَّى مات النبِي ﷺ وَهُو عليْه راضٍ.

فقاتل مع أَبي بَكْر حَتَّى مات وَهُو عليْه راضٍ.

" قائد بحسابات الآخرة، لا بكنوز الدنيا"

وَفِي عَهْد خَلِيفَة المؤْمنين عُمَر بْن الخطَّاب جاء إِلَيه وَقَال لَه كلمات لِيُثَبتَ بِهَا قَلبَه ويشدِّد بِهَا عَزمَه، تُسطّر بِمَاء الذَّهب، قال:

"يَا عُمَر؛ أُوصِيك أن تَخشَى اللَّه فِي النَّاس، ولَا تَخشَى النَّاس فِي اللَّه، وألَّا يُخَالِف قَولُك فِعْلك، فَإِن القوْل مَا صَدّقَه الفعْل. يَا عُمَر؛ أَقِم وَجهَك لَمِن وَلَّاك اللَّه أَمرَه مِن بعيد المسْلمين وقريبهم، وَأحِبّ لَهُم مَا تُحِب لِنفْسك وأهْل بَيتِك، واكْره لَهُم مَا تَكرَه لِنفْسك وأهْل بَيتِك، وخُضِ الغمرات إِلى الحَق ولَا تَخَف فِي اللَّه لَومَة لَائِم."(2)

رُغْم أنَّ عُمَر خَلِيفَة المسْلمين وَمِن الصَّحابة المقرَّبين لِلنَّبيِّ ﷺ، وأكْثر عِلْمًا وتقْوى مِن سعيد بِكثير، فإنَّه لَم يَستَمِع لِنصائحه بِأذنَيْه فقط، بل بِقلْبه أيْضًا.

ثُمَّ قال لَه مُتواضعًا:"وَمَن يَستطِيع ذَلِك يَا سعيد؟"

فَقَال:"يسْتطيعه مِثْلك مِمَّن ولَّاهم اللَّه أَمْر أُمَّة مُحمَّد وليْس بَينَه وبيْن اللَّه أحد."(2)

وَهنَا عَلِم عُمْر حِكْمَة هذَا الرَّجل الذِي لَطَالمَا وَجدَه أسدًا يَزأَر فِي المعارك وشجاعًا لَا يَخَاف المكاره.

فَقَال لَه حِينهَا: إنَّه سيولِّيه لِيَكونَ أميرًا على حِمْص، والأمير مَعْنَاه رئيس الدَّوْلة، لِأنَّ الخليفة تَحْت إِمرَته جميع الدُّول الإسْلاميَّة، فيعيّن على كُلِّ دَولَة أميرًا خاصًّا بِهَا. 

وبالطَّبْع رَدُّ أيّ إِنسَان على عَرْض مُغْرٍ مِثْل هذَا يَضمَن لَه كُلّ مَا يتمنَّاه فِي الحيَاة مِن مال وَجَاه هُو القبول الفوْرِي لَه!

الأمير الزاهد: قائد فقير بأخلاق الأنبياء

كان سعيدًا لَا يُريد الارْتباط بِهَذه الدُّنْيَا بِمُلك ولَا مال لِيَكون مثل خُبَيب الذِي رآه مُتمسِّكًا بِدينه لَا تَغرُّه المغْريات الفانية فِي هَذِه الحيَاة...

فَرفَض فِي بَادِئ الأمْر وَقَال:"يَا عُمَر؛ نَشدتُك اللَّه لَا تَفتنِّي"

وعنْدَمَا أصرَّ عُمَر عليْه لَم يَكُن مِنْه سِوى القبول، فَقَال لَه عُمَر:"أَلَّا نَفرِض لَك رِزقًا؟"

فَقَال لَه:"ومَا أَفعَل بِه يَا أمير المؤْمنين، فَإِن عَطائِي مِن بَيْت المال يزيد عن حَاجَتِي"(2)

أيْ القدر البسِيط الذِي يَأخُذه وَهُو وَاحِد مِن عَامَّة المسْلمين هُو نَفْس القدر الذِي سيأْخذه وَهُو أمير على دَولَة كَامِلة!

كرامة الأمير الزاهد: سلوك القائد المؤمن

وبعْد فَترَة قَلِيلَة مِن الزَّمَان سَافَر خَلِيفَة المؤْمنين عُمَر بْن الخطَّاب إِلى الشَّام يَتَفقَّد أَحوَال رَعيتِه، وعنْدَمَا وصل إِلى حِمْص أَمْر أَهلَها أن يَكتُبوا لَه أَسمَاء جميع فُقرائهم حَتَّى يَسُد لَهُم حَاجتِهم.

فكتبوا لَه جميع الأسْماء، وعنْدَمَا تَفقدَها إِذ بِه يَقرَأ اسْم رَجُل فِيهَا يُسمَّى سعيد بْن عَامِر؛ فتعجّب عُمَر وسألَهم:"مَن سعيد؟"

فقالوا:"سعيد بْن عَامِر الجُمحي أمير دَولتِنا الذي ولَّيْته عليْنَا!"

فَتعجِب عُمَر وَقَال:"أميركم مِن الفقراء؟"

فقالوا:"إِنَّه لِيَمر عليْه الأيَّام الطِّوَال ولَا يُوقد فِي بَيتِه نار!"

فأجْهش عُمَر فِي البُكاء حَتَّى بل لِحْيته!(1)

وَهنَا السُّؤَال لَك؛ هل فِي حَياتِك رأيْتَ مَلكًا أو أميرًا أو واليًا مَعدُودًا مِن فِئة فُقَراء البلَاد؟

بل هُو فِي الغالب يَكُون أَغنَى أغْنيائهَا إِن لَم يَكُن الأغْنى على الإطْلاق!

الأمانة والزهد: رفض المغريات الفانية

بَعْد أن عَلِم عُمَر بِهَذا أَرسَل إِلى سعيد أَلْف دِينار، فيَا تُرى مَاذَا كَانَت رَدَّة فِعْل سعيد على هذَا المال؟

دخل على زَوجَتِه بِوَجه عَبُوس، حَتَّى شَعرَت أَنَّه حدث أَمْر جلل لِلمسْلمين فسألَتْه:"هل مات أمير المسْلمين؟"

قال:"بل أَعظَم مِن ذَلِك!"

قَالَت:"ومَا ذاك؟"

قال:"دَخلَت على الدُّنْيَا لِتفْسد آخرتي! وَحلَّت الفتْنة فِي بَيتِي!"

فمَا ردّ زَوجَة سعيد؟

هل سَتقُول لَه أَنهَا تَعبَت مِن عَيْش الفقْر والفقراء وأنَّهَا تَستَحِق أن تعيش كمَا يعيش زَوْج الحُكام والأمراء؟

أبدًا...

بل قَالَت لَه أن يُنْفِق العطِية كُلهَا فِي سبيل اللَّه؛ فَقَال لَها:"هل تُعينيني على ذَلِك؟"

قَالَت:"نعم."

ووزَّعوهَا على فُقَراء المسْلمين.(2)

فلم يدع أَرمَلة أو فقيرًا أو مِسْكِينًا إِلَّا أَعطَاه وسدَّ حَاجَتَه.

وعنْدَمَا سَألَه النَّاس عن سِرِّ زُهْدِه فِي الحيَاة، وَكثْرَة إِنْفاقه مِن مَالِه قال لَهُم:

"سُمعَت رَسُول اللَّه ﷺ يَقُول:

"يَجمَع اللَّه عزَّ وجلَّ النَّاس لِلحسَاب، فيجيء فُقَراء المؤْمنين يزفُّون كمَا تُزَف الحمَّام، فيُقال لَهُم:"قِفوا عِنْد الحسَاب"، فيقولون:"مَا عِنْدنَا حِسَاب ولَا آتيتُمونَا شيْئًا"، فَيقُول رَبهُم:"صَدَق عِبادِي"، فيُفْتح لَهُم باب الجنَّة فيدْخلونهَا قَبْل النَّاس بِسبْعِين عامًا!" (3)

فسعيد لَيْس كمَا يَظُن النَّاس أنّه لَيْس ذكيًّا، بل هُو أَدهَى مِنَّا جميعًا؛ هُو يَعلَم أَنَّه مَهمَا عاش فِي هَذِه الحيَاة فَإنَّه سَيمُوت ولن يَأخُذ معه شَيئًا، فَقرَّر أن يَدّخِر كُلَّ هَذِه الأمْوال عِنْد اللَّه لِأَنه يَعلَم أنَّ مَا عِنْد اللَّه هُو خَيْر وَبَاق!

شكوى أهل حمص: القيادة بالزهد والعدل

وَفِي مَرَّة مِن المرَّات قام مَجمُوعة مِن رِجَال حِمْص إِلى عُمْر يشْتكون إِلَيه مِن سعيد؛ فتعجّب عُمْر مِنْهم، وَلَكنَّه قَرَّر الاسْتماع لَهُم.

فذكروا لَه أَربَع شكاوى؛ الشَّكْوى الأُولى: أَنَّه لَا يَخرُج إِليْهم حَتَّى يَتَعالَى النَّهَار.

أيْ يَظْهَر فِي كُلِّ مَكَان.

فَسأَل عُمَر سعيدًا:"لِماذَا؟"

فَقَال:"إِنِّي أَكرَه أن أَقُول ذَلِك، وَلكِن حَيْث أَنَّه لَا بُدَّ مِن توْضيحه، فَإنَّه لَيْس لِأهْلي خَادِم فَأقُوم الصُّبْح فأعجِن لَهُم عَجينَهم، ثُمَّ أنْتظِره يَختَمِر، ثُمَّ أَقُوم فَأخبِزه لَهُم، ثُمَّ أَتوَضأ وأخْرج إِليْهم."

تخيَّلوا وَالِي المدينة يُسَاعِد زوْجته فِي شُئُون المنْزِل ولَا يَخرُج لِرعيَّته إِلا أن يَنتَهِي مِنهَا!

أُمًّا الشَّكْوى الثَّانية: فقالوا:"إِنَّه لَا يُجيب أحدًا بِاللَّيْل!"

فسأله عُمَر فَقَال:"إِنِّي أَكرَه أن أَذكُره، وَلكِن لِمَا أَنَّه لَا بُدَّ مِن ذَلِك فإنِّي قد جَعلَت النَّهَار لَهُم ولربَّيْ عزَّ وجلَّ اللَّيْل."

فِي النَّهَار أُعطِيت حق أَهلِي ورعيَّتي، يَأتِي اللَّيْل لِأخْتَلِي فِيه بِنفْسي، وأُناجي فِيه رَبِّي، وأجدِّد إِيماني فأزيد مِن قِيامي ودعائي.

وَهذِه حَيَاة المسْلِم المتكاملة التِي يَحرِص فِيهَا على أن يَكُون مُعْطِيًا حقّ اللَّه، وحقَّ نَفسِه، وحقَّ رَعيتِه وَمَن اِسْتخْلفه اللَّه عَليهِم.

قال عُمْر:"ومَا هِي الشَّكْوى الثَّالثة؟"

قَالُوا:"إِنَّه لَا يَخرُج يوْمًا مِن كُلِّ شَهْر!"

فسأله فَقَال:"إِنَّه لَيْس لِي خَادِم، وليْس عِنْدِي ثِيَاب غَيْر التِي عليَّ فَأنَا أَغسِلها فِي الشَّهْر مَرَّة وأنْتظرهَا حَتَّى تَجِف، ثُمَّ أَخرَج إِليْهم آخر النَّهَار"

دَعونِي أُذكِّركم أنَّ هذَا الرَّجل أمير بلد مِن أَغنَى بِلَاد المسْلمين حِينذَاك!

فَأمَّا الشَّكْوى الرَّابعة:فقالوا:"أَنَّه تُصيبه غَشيَه فِي بَعْض الأوْقات فيغيب عَمَّن فِي المجْلِس!"

فسأله عُمَر فَقَال:"إِنِّي حَضَرت مَصرَع خُبَيب بْن عَدِي وَأنَا مُشْرِك ورأيْتُ قُرَيْشًا تَقطَع جَسدَه وَهِي تَقُول: أَتحَب أن يَكُون مُحَمدًا مَكانَك؟ فَقَال: وَاللَّه مَا أحبُّ أن أَكُون آمنًا وَأهلِي وَولَدِي وأنَّ مُحَمدا تَشكُوه شَوكَة!، فَإذَا ذَكرَت ذَلِك المشْهد وأنِّي لَم أَنصُره ظننْتُ أنَّ اَللَّه لَا يَغفِر لِي فتصيبني تِلْك الغشْية." (4)

دعوة للتغيير قبل فوات الأوان

رَغْم أَنَّه مضى على هذَا الموْقِف أَكثَر مِن سَبعَة عشر عامًا.

ورغْم أَنَّه لَم يَكُن مُسْلِما حِينهَا، وليْس عليْه أيُّ ذَنْب فالإسْلام يَمحُو مَا قِبَله!

ورغْم أَنَّه أَسلَم وحارب وجاهد وَحَسُن إِسْلامه بَعْدها؛ فإنَّ هذَا المشْهد الذِي رآه بِعيْنه، وَهذَا الثَّبَات الذي شعر بِه فِي قَلبِه، وَهذِه العقيدة التِي اعْتنقَهَا بِكلِّ جَوارِحه، ما زال نُورهَا يُضيء فِي صَدرِه ولم ينطَفِئ أبدًا.

وظلَّ سعيد هَكذَا طَوَال حَياتِه عبْدًا زاهدًا، زوْجًا مُخْلِصا، حاكمًا عادلا، إِلى أنَّ تَوَفاه اللَّه.

وهكذَا يُمْكِن أن تَكُون أَنْت أيْضًا!

حين رأى سعيد خُبَيبًا يَتَعذَّب وَيثبُت أسْلم وَحَسن إِسْلامه.

فأنْتَ أيْضًا قد رأيْتَ أَهْل غَزَّة يُعذّبون ويُقْتلون وثابتون أيْضًا، أَفلَم يحن وَقْت إِسْلامك أَنْت أيْضًا؟

وَإِن كُنْت مُسْلِما ألم يحن أن تضع عَنْك أبْطالك الوهْميِّين مِن صُنَّاع أَفلَام وممثِّلين وتتشَبَّث باللأبطال الحقيقيِّين مِمَّن بَذلُوا الغالي والنَّفيس لِيوصِّلوا إِلَيك هذَا الدِّين؟

تَذكُّر؛ الوقْتُ المتبقِّي لَرُبمَا يَكُون قليل

قَرَّر الآن التَّغْيير!

المراجع

  1. الزهد لأحمد بن حنبل - جزء 1 - صفحة 152https://www.islamweb.net/ar/li...
  2.  قصة سعيد بن عامر الجمحي مع خبيب بن عديhttps://www.alukah.net/sharia/... 
  3. المكتبة الشاملة الحديثةhttps://al-maktaba.org/book/31...
  4.  المكتبة الشاملة الحديثةhttps://al-maktaba.org/book/31...


موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day