البحث
اعتراف أهل الكتاب بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعتراف أهل الكتاب بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يقول تعالى في كتابه الكريم محتجًا على المكذبين برسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء:197].
أولا: قبل مولده صلى الله عليه وسلم:
لقد كان أهل الكتاب يعرفون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ويعلمون مخرجه وسيرته قبل أن يولد، وعاش بعضهم وهو ينتظر ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد حملت كتب التاريخ قصصًا كثيرة في هذا الشأن، نذكر منها ما يلي:
1- روى أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة بسنده عن أبي سوية بن خليفة قال: سألت محمد بن عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد فقلت: كيف سماك أبوك محمدا؟ فضحك، ثم قال: أخبرني أبي عدي بن ربيعة، قال: خرجت أنا وسفيان بن مجاشع، ويزيد بن عمر بن ربيعة، وأسامة بن مالك نريد ابن جفنة، فلما قربنا منه نزلنا إلى شجرات وغدير، فقلنا: لو اغتسلنا وزهينا ثيابنا ههنا من قشف السفر، فجعلنا نتحدث، فأشرف علينا ديراني من قائم له، فقال: إني أسمع لغة قوم ليست بلغة أهل هذه البلاد، قلنا: نحن قوم من مضر، قال: من أي المضريين؟ قلنا: من خندف، قال: (إنه سيبعث وشيكا نبي منكم، فخذوا نصيبكم منه تسعدوا، قلنا: ما اسمه؟ قال: محمد، فأتينا ابن جفنة، فقضينا حاجتنا، ثم انصرفنا، فولد لكل رجل منا ابن فسماه محمدا، يدور على ذلك الاسم".
2- ومن ذلك أيضًا إخبار اليهود أهل المدينة بقرب خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن إسحاق في السيرة بسنده عن عاصم بن عمر بن قتادة عن رجالٍ من قومه، قالوا : إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمةِ الله تعالى وهُداه لنا، لما كنا نسمَعُ من رجالِ يهود وكنا أهلَ شركٍ أصحابَ أوثانٍ، وكانوا أهل كتاب، عندَهم علمٌ ليس لنا، وكانت لا تزالُ بيننا وبينهم شرورٌ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرَهون، قالوا لنا : إنه قد تقاربَ زمانُ نبيٍّ يُبعَثُ الآن، نقتلُكم معه قتلَ عادٍ وإِرَمٍ فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم فلما بعثَ الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أجبناه فآمنّا به، وكفروا به. ففينا نزلَ هؤلاءِ الآياتِ من البقرة: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة: 89] .
3- ومن ذلك أيضًا، ما رواه ابن إسحاق عن سلمة بن سلامة بن وقش - وكان من أصحابِ بدر - قال: كان لنا جارٌ من يهودٍ في بني عبدِ الأشهَلِ، قال: فخرج علينا يوماً من بيته حتى وقفَ على بني عبدِ الأشهل - قال سلمة : وأنا يومئذٍ من أحدثِ من فيه سناً، على بردةٍ لي، مضطجعٌ فيها بفناءِ أهلي - فذكرَ القيامةَ والبعثَ والحسابَ والميزانَ والجنةَ والنارَ، قال: فقال ذلك لقومٍ أهلِ شركٍ أصحابِ أوثانٍ، لا يرَوْنَ أن بعثاً كائنًا بعد الموتِ، فقالوا له: ويحكَ يا فلانُ أَوَ ترى هذا كائناً، أن الناسَ يُبعَثون بعدَ موتِهم، إلى دارٍ فيها جنةٌ ونارٌ يُجْزَونَ فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يُحلَفُ به ولوَدَّ أن له بحظِّه من تلك النارِ أعظم تَنُّورٍ في الدارِ، يُحمونَه ثم يُدخِلونه إياه فيطينونه عليه، بأن ينجوَ من تلكَ النارِ غداً، فقالوا: ويحك يا فلان ! فما آيةُ ذلك ؟ قال: نبيٌّ مبعوثٌ من نحوِ هذه البلادِ، وأشار بيده إلى مكةَ واليمنِ، فقالوا: ومتى تراه ؟ قال: فنظرَ إليَّ وأنا من أحدَثِهم سناً، فقال: إن يستَنْفِدْ هذا الغلامُ عمرَه يُدْرِكْه قال سلمة: فوالله ما ذهب الليلُ والنهارُ حتى بعثَ الله محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو حي بينَ أظهُرِنا، فآمنا به، وكفرَ به بغياً وحسداً قال: فقلْنا له : ويحكَ يا فلانُ، ألستَ الذي قلتَ لنا فيه ما قلتَ ؟ قال : بلى، ولكن ليس به.
4- ومن القصص العجيبة في هذا الشأن، قصة ابن الهيبان؛ فقد ذكر ابن إسحاق عن عاصم بن عمرَ بن قتادة عن شيخٍ من بني قريظةَ قال لي: هل تدري عمَّ كان إسلامُ ثعلبةَ بنِ سعية، وأُسيدِ بنِ سعية، وأسدِ بنِ عُبيد ؟ - نفرٌ من بني هدل ، إخوة بني قريظة ، كانوا معهم في جاهليتِهم ، ثم كانوا سادتهم في الإسلام - قال : قلت : لا والله.
قال: فإن رجلاً من يهود من أهلِ الشامِ يقال له : ابن الهيبان قدم علينا قُبَيل الإسلامِ بسنين فحلَّ بين أظهرِنا، لا والله، ما رأينا رجلاً قطُّ لا يصلي الخمسَ أفضلَ منه، فأقامَ عندنا، فكنا إذا قحطَ عنا المطرُ، قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستَسْقِ لنا، فيقول: لا والله، حتى تقدِّموا بين يديْ مخرَجِكم صدقةً، فيقولون له : كم ؟ فيقول : صاعاً من تمرٍ أو مُدَّينِ من شعير فنُخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهرِ حرَّتِنا، فيستسقي اللهَ لنا، فوالله ما يبرَحُ مجلسه حتى يمرَّ السحابُ ونُسْقى قد فعل ذلكَ غيرَ مرَّةٍ ولا مرتينِ ولا ثلاث.
قال: ثم حضَرَتْه الوفاةُ عندنا، فلما عرفَ أنه ميتٌ، قال: يا معشرَ يهودَ، ما تَرَوْنَه أخرجني من أرضِ الخمرِ والخميرِ إلى أرضِ البؤسِ والجوعِ؟ قال : قلنا: إنك أعلمُ، قال: فإني إنما قدِمْتُ هذه البلدةَ، أتَوَكَّفُ خروجَ نبيٍّ قد أظلَّ زمانُه، وهذه البلدةُ مهاجرُه، فكنت أرجو أن يُبعَثَ، فأتَّبِعُه، وقد أظلَّكم زمانُه، فلا تُسبَقَنَّ إليه يا معشرَ يهود، فإنه يُبعَثُ بسفكِ الدماءِ، وسَبْيِ الذراري والنساءِ ممن خالفَه، فلا يمنَعُكم ذلك منه، فلما بُعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وحاصرَ بني قريظة، قال هؤلاءِ الفتيةُ - وكانوا شباباً أحداثاً - : يا بني قُريظَةَ، والله إنه للنبيُّ الذي كان عَهِدَ إليكم فيه ابنُ الهيبان، قالوا : ليس به، قالوا : بلى والله إنه لهو بصفَتِه، فنزلوا وأسلَموا، وأحرَزُوا دماءَهم وأموالهَم وأهْليهم.
فتلك أربع قصص لأشخاص متفرقين كانوا يعلمون بقرب خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ينتظرونه، فمنهم من آمن به، ومنهم من منعهم الحسد والكبر عن الإيمان فخسر الدنيا والأخرة، نعوذ بالله من الخذلان.
ثانيًا: من مولده صلى الله عليه وسلم وحتى بعثته:
ومن الوقائع التي تؤكد نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وقع بعد مولده من قصص مماثلة ذكرتها كتب السيرة، والتاريخ.
1- من ذلك ما حدثَ ليلةَ مولِدِه، من طلوعِ نجمِه الذي يدُلُّ على ولادته صلى الله عليه وسلم، وبه عرفتْ اليهودُ أنه قد وُلِدَ.
روى ابن إسحاق بسنده عن حسان بن ثابتٍ رضي الله عنه قال: والله إني لغلامٌ يفعةٌ، ابنُ سبعِ سنينَ أو ثمانٍ، أعقِلُ كلَّ ما سمعتُ، إذ سمعتُ يهودياً يصرُخُ بأعلى صوته : يا معشرَ يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له : ويلَكَ ، مالَكَ ؟ قال : طلعَ نجمُ أحمدَ الذي وُلِدَ به.
قال ابن إسحاق: فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقلت: ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ؟ فقال: ابن ستين، وقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين.
2- كانت قصة حسان بن ثابت في المدينة حيث كثر اليهود انتظارًا لخروج النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يعرفون أنه سوف يهاجر إلى المدينة النبوية، أما في مكة المكرمة فقد وقعت حادثة مماثلة، روى البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن عائشةَ رضي الله عنها قالت : كان يهوديٌّ قد سَكَنَ مكةَ، يتَّجِرُ بها، فلما كانتْ الليلةُ التي وُلِدَ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلسٍ من قريش : يا معشرَ قُريشٍ، هل وُلِدَ فيكم الليلةَ مولودٌ ؟ فقال القوم : والله ما نعلمُه، قال : الله أكبرقال:ا إذ أخطَأَكم فلا بأسَ، انظروا واحفَظوا ما أقولُ لكم، وُلِدَ فيكم هذه الليلة نبيُّ هذه الأمةِ الأخيرةِ بين كَتِفَيْهِ علامةٌ، فيها شعراتٌ متواتراتٌ كأنهنَّ عرفُ فَرَسٍ، لا يرضَعُ ليلتينِ، وذلك أن عِفريتاً من الجنِّ أَدْخَلَ إصبَعَه في فمه فمنعه الرضاعَ فتصدَّعَ القومُ من مجلِسهم، وهم يتعجَّبونَ من قولِه وحديثِه، فلما صاروا إلى منازِلهم، أخبَرَ كلُّ إنسانٍ منهم أهلَه،
فقالوا : لقد وُلِدَ لعبدِ الله بنِ عبدِ المطلب غلامٌ سَمَّوه محمداً، فالتقى القومُ، فقالوا : هل سمعتُم حديثَ هذا اليهوديِّ ؟ بلَغَكُم مولدُ هذا الغلامِ ؟ فانطلقوا حتى جاءوا اليهوديَّ فأخبروه الخبرَ، قال: فاذهبوا معي حتى أنظرَ إليه، فخرجوا به حتى أدْخَلُوه على آمنةَ، فقال: أَخرِجي إلينا ابنَكِ، فأخْرَجَتْه، وكشَفوا له عن ظهرِه، فرأى تلك الشامةَ، فوقعَ اليهوديُّ مغْشِياً عليه، فلما أفاقَ، قالوا: ويلَكَ مالَكَ ؟ قال: ذهبتْ واللهِ النبوةُ من بني إسرائيلَ، أَفَرِحْتُمْ به يا معشرَ قريش ؟ أما والله ليَسْطُوَنَّ بكم سطوةً يخرج خبرُها من المشرقِ والمغربِ.
وكان في النفرِ الذي قال لهم اليهوديُّ ما قال : هشامٌ ، والوليدُ ، ابنا المغيرة ، ومسافرُ بنُ أبي عمرو ، وعبيدةُ بنُ الحارث ، وعقبةُ بنُ ربيعة - شابٌ فوقَ المحتلم - في نفرٍ من بني عبدِ منافٍ وغيرُهم من قريش .
3- ومن القصص ذات الشأن في هذا الأمر، قصة بحيرى الراهب وموقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رآه صغيرًا مع عمه أبي طالب في رحلته إلى الشام، قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع المسير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني، ولا أفارقه أبدا، أو كما قال.
فخرج به معه فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، يقال له بحيرى في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر .
فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم.
قال ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها.
فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته ثم أرسل إليهم فقال إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم فقال له رجل منهم والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم فما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرى: صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم، فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة.
فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي؛ قالوا له يا بحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا، فتخلف في رحالهم فقال لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
قال فقال رجل من قبحيرى:القوم واللات والعزى ، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه فقال له سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني، قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؛ قال: فإنه ابن أخي؛ قال فما فعل أبوه ؟ قال: مات وأمه حبلى به قال صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده.
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام؛ فزعموا فيما روى الناس أن زريرا وتماما ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرى، وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه.
فهذا حديث عظيم يظهر كيف أن أهل الكتاب يهود كانوا أو نصارى كانوا في ترقب وانتظار لخروج النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، منهم من كان ينتظر ليقتله وما كان له ذلك من سبيل، ومنهم من كان ينتظر ليؤمن به فيسعد في الدنيا والآخرة، وقد زعم بعض المستشرقين وأعداء الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بحيرى الراهب في هذا اللقاء ما كان السبب فيما بعد في إعلانه النبوة، ورغم تهافت هذه الشبهة وسقوطها، إلا إننا ننقل هنا دحض باحث غربي لهذه الشبهة، ولقد بحث الكاتب الإنكليزي توماس كارليل قضية لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ببحيرى الراهب، يقول توماس كارليل في كتابه الأبطال: (ولما شب محمد وترعرع، صار يصحب عمه في أسفار تجارية وما أشبه، وفي الثامنة عشر من عمره نراه فارساً مقاتلاً يتبع عمه في الحروب، غير أن أهم أسفاره ربما كان ذاك الذي حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين ، رحلة إلى مشارف الشام ، إذ وجد الفتى نفسه هنالك في عالم جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الأهمية جداً في نظره ، أعنى الديانة المسيحية، وإني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بحيرى) الذي يزعم أن أبا طالب ومحمداً سكنا معه في الدار، ولا ماذا عساه أن يتعلمه غلام في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما، فإن محمداً لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشر، ولم يكن يعرف إلا لغته، ولا شك أن كثيراً من أحوال الشام ومشاهدها لم يك في نظره إلا خليطاً مشوشاً من أشياء ينكرها ولا يفهمها ".
ثالثًا: بعد بعثته صلى الله عليه وسلم:
بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ووحي الله له، تكثر القصص والوقائع الدالة على تصديق أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن بعضهم كان صادقًا مع نفسه فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقه وآمن به، بينما كان آخرون يطمس الحسد والبغي أعينهم عن رؤية الحق، ومن الوقائع في هذا الأمر، ما نذكره: