البحث
الحياء والتواضع عند عثمان
عُرف الإسلام واشتهر بين الأديان السماوية بخلق الحياء، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ".
وإذا كان الإسلام قد اشتهر بخلق الحياء بين الأديان فقد اشتهر به أيضًا بين أبناء هذه الملة الواحدة ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه فكأن عثمان بن عفان رضي الله عنه يمثل الإسلام وحده بخلقه هذا الذي فطره الله عليه، كيف لا وقد قال فيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خُلُقًا عُثْمَانُ". وهو من هو صلى الله عليه وسلم حيث قال: "أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي". وزكاه الذي سواه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. ووصفته رفيقته في الحياة بأوجز وأدق عبارة قالت رضي الله عنها: "كان خُلُقه القرآن". فكان عثمان رضي الله عنه شبيهًا بصاحب هذه الأخلاق، وتلك الصفات الذي كان أشد حياء من العذراء في خدرها.
من حيائه رضي الله عنه ما روته نباتة وهي جارية لامرأته تقول: كان عثمان إذا اغتسل جئته بثيابه، فيقول لي: لا تنظري إليَّ، فإنه لا يحل لك.
ويقول عن نفسه رضي الله عنه موضحًا عفته وحياءه الذي منعه مساوئ الأخلاق: "ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شربت خمرًا في جاهلية، ولا إسلام، ولا زنيت في جاهلية، ولا إسلام".
ولهذا كله كانت له الشهادة من خير الخلق صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيته كاشفًا عن ساقيه، فأستأذن أبو بكر فأذن له، فدخل وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، قالت عائشة: يا رسول الله، دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ".
فمقام عثمان مقام الحياء، والحياء فرع يتولد من إجلال من يشاهده ويعظم قدره مع نقص يجده من النفس، فكأنه غلب عليه إجلال الحق تعالى، ورأى نفسه بعين النقص والتقصير، وهما من جليل خصال العباد المقربين، فَعَلَتْ رتبة عثمان لذلك، فاستحيت منه خلاصة الله من خلقه (الملائكة)، كما أن من أحب الله أحب أولياءه، ومن خاف الله خاف منه كل شيء، ولذلك ستر u فخذه عند دخول عثمان وجمع عليه ثيابه.
"وعن يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وعثمان حدّثاه أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر، وهو كذلك، فقضي إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثم انصرف. قال عثمان: ثم استأذنت عليه، فجلس، وقال لعائشة: اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكَ. فقضيت إليه حاجتي، ثم انصرفت. فقالت عائشة: يا رسول الله، ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَنْ لاَ يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ".
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْحَمُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهَا فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهَا حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهَا بْالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَقْرَؤُهَا لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيٌّ، وَأَعْلَمُهَا بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ".
فلم يكن حياء عثمان رضي الله عنه حياء مفتعلاً أو متكلفًا، بل كان حياء صادقًا، وكأنما مازج الحياء دمه ولحمه، فصار كالنَّفَس يفعله بلا إرادة رضي الله عنه.
يقول أبي عبد الله مولى ابن الهاد رحمه الله: رأيت عثمان بن عفان يوم الجمعة على المنبر عليه إزار عدني غليظ، ثمنه أربعة دراهم أو خمسة دراهم، وريطة[1] كوفية ممشقة، ضرب اللحم- يعني خفيف اللحم- طويل اللحية، حسن الوجه.
ومن صور تواضعه:
عدم اتخاذه للجند أينما ذهب، واستقباله لكل مسلم وبشاشته له، يقول الحسن البصري رحمه الله: رأيت عثمان بن عفان يقيل في المسجد، وهو يومئذ خليفة، ويقوم وأثر الحصى بجنبه. وسئل الحسن عن القائلين في المسجد فقال: رأيت عثمان بن عفان نائمًا في المسجد، ورداؤه تحت رأسه، فيجيء الرجل فيجلس إليه، ثم يجيء الرجل فيجلس إليه، كأنه أحدهم.
وتروي خادمته رهيمة فتقول: كان عثمان لا يوقظ نائمًا من أهله إلا أن يجده يقظانًا فيدعوه، فيناوله وضوءه. وفي رواية: كان إذا قام من الليل يأخذ وضوءه، قال له أهله: ألا تأمر الخدم يعطونك وضوءك؟ فيقول: لا، الليل لهم يستريحون فيه.
فهذا مثل من اتصاف أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالرحمة، فهو مع كبر سنه وعلو منزلته الاجتماعية يخدم نفسه في الليل ولا يوقظ الخدم، وإن وجود الخدم من تسخير الله تعالى للمخدومين، وإن ما ينبغي للمسلم الذي سخر الله تعالى له من يخدمه أن يتذكر أن الخادم إنسان مثله، له طاقة محدودة في العمل، وله مشاعر وأحاسيس، فينبغي له أن يراعي مشاعره، وأن ييسر له الراحة كاملة في النوم، وأن لا يشق عليه بعمل، وكان رضي الله عنه من تواضعه واحترامه لعم النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به، وهو راكب نزل حتى يزول العباس احترامًا وتقديرًا له.
بل إن تواضعه رضي الله عنه وحلمه نراه يصل إلى أعلى درجة ويبلغ الذروة حين وفاته رضي الله عنه، فلم يستجب لطلب الصحابة الكرام في الدفاع والزود عنه حين حاصره البغاة المعتوهون، ونراه يجلس وحده دون حاشية وحامية تحرسه وتدافع عنه وهو خليفة المسلمين، وفي هذا يكون قد ضحى بروحه ودمه الطاهر في سبيل ألا يراق دم من المسلمين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا تقوم بسببه فتنة لا يعلم مداها إلا الله، كل ذلك بسبب تواضعه ورحمته برعيته، وكان من أوضح الصور والمواقف على تواضعه هذا ورحمته ما يرويه موسى بن طلحة حيث يقول: سمعت عثمان بن عفان، وهو على المنبر والمؤذن يقيم الصلاة، وهو يستخير الناس عن أخبارهم وأسعارهم وعن مرضاهم.
وانظر إلى تلك المعاملة التي كان يعامل بها عبيده لتقف بنفسك على قمة تواضعه وقصاصه من نفسه، حيث يغضب على عبد له ذات يوم، فيعرك أذنه حتى توجعه، وسرعان ما يفكر بالآخرة والقصاص، فيقضّ مضجعه ويخاف من ذلك التصرف العابر الذي يراه كبيرًا، ويطلب إلى عبده قائلاً: إني عركت أذنك فاقتص مني. فيستحي العبد ويأبى أن يقف من عثمان ذلك الموقف، لكن عثمان يلح عليه، ويأمره في حزم فيرضخ ويطيع، وما إن يأخذ العبد بإذن عثمان حتى يقول عثمان: اشدد يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة.
فيا له من إنسان! بل يا له من خليفة! وإذا أردت له أبعد من ذلك فانظر إلى معاملته الناس، وليكن نصب عينيك مكانته كخليفة مطاع الأمر مهاب الجانب بين المسلمين، اشترى من رجل أرضًا فأبطأ عليه الرجل في قبض ثمنها، فلقيه، فعن عطاء بن فروخ مولى القرشيين أن عثمان رضي الله عنه بعد ذلك قال له: ما منعك من قبض مالك؟ فقال الرجل: إنك غبنتني، فما ألقى من الناس أحدًا إلا وهو يلومني. قال عثمان: أذلك يمنعك؟ قال: نعم. قال له عثمان: فاختر بين أرضك ومالك، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَدْخَلَ اللَّهُ الْجَنَّةَ رَجُلاً كَانَ سَهْلاً مُشْتَرِيًا وَبَائِعًا وَقَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا".
فقد بان تواضعه رضي الله عنه بين مَن هم دونه، وهم العبيد وبين من هم أحرار، أو بين كافة رعيته، فما الخطب وما البال بين الأهل والأحبة وذوي الرحم؟! لا نجد أبلغ من أن نقول أن عثمان رضي الله عنه كان مضرب المثل في تواضعه بين أهله وصلة رحمه، حتى قال عنه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "كان عثمان أوصلنا للرحم".
ووصفته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بعد أن قتلوه بقولها: "لقد قتلوه، وإنه لمن أوصلهم للرحم، وأتقاهم لربه".
[1] الريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين.