البحث
شبهة تعدد الخالقين
الشبهة
تعـــــــد الخالـــــقين
تكمن تلك الشبهة فى أنهم ادعوا أن القرآن الكريم حينما ذكر فيه قولُ الله تبارك وتعالى
" فتبارك الله أحسن الخالقين" ([1])
أى أن هناك خالقين غير الله تبارك وتعالى؟
الـــــرَّد علـــى الشبهــــــة
إن هذه الشبهة إنما تنم عن ضعف من أوردها باللغة العربية وتدل كذلك عن تسرع وطيش موردها فإنهم قد نظروا إلى الآية وحكموا عليها من خلال النظرة الأولى والنظرة الأولى حمقاء
فإن من له أدنى علم باللغة العربية يعلم أن بعضا من الكلمات قد يكون لها أكثر من وجه في الاستعمال أو أكثر من معنى ويحدد المعنى المراد منها سياقُ الكلام ومعنى الجملة
مثال ذلك
كلمة (خلق) فهذه الكلمة لها معنيان كما جاء في لسان العرب وتاج العروس
يقول ابن منظور
قال أَبو بكر بن الأَنباري :ـ
الخلق في كلام العرب على وجهين
أَحدهما الإِنْشاء على مثال أَبْدعَه
والآخر التقدير
وقال في قوله تعالى "فتبارك الله أَحسنُ الخالقين" معناه أَحسن المُقدِّرين
وكذلك قوله تعالى:
" وتَخْلقُون إِفْكاً "
أَي تُقدِّرون كذباً
وقوله تعالى
" أَنِّي أَخْلُق لكم من الطين "
خَلْقه تقديره ([1])
وبناء على هذا فإن الخلق منه ما لا ينسب إلا لله وحده ومنه ما قد ينسب لله ولغيره من خلقه .
قال صاحب البحر المحيط
والخَلْق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم الصرف إلى الوجود وهذا لا يكون إلاَّ لله تعالى .
ويكون بمعنى : التقدير والتصوير ، ولذلك يسمون صانع الأديم ونحوه : الخالق ، لأنه يقدّر ، ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى :
"فتبارك الله أحسن الخالقين "
أي المقدّرين .([2])
والله عز وجل قد استخدم المعنيين في كتابه فقال جل شأنه عن المعنى الأول
"أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" ([3])
وأيضاً قوله تعالى :
" أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " ([4])
وجه الدلالة
دلت الآيات الكريمات على أن الخلق بمعنى الإيجاد والبدء من عدم ولا موجد غير الله فهذا مختص بالله لا يشاركه فيه أحد
وقال عن المعنى الثاني جل شأنه:
" فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " ([5])
وقوله جل شأنه:
" أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ "
وأيضاً قوله تبارك فى علاه
" وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ"
فالمعنى المراد هنا التصوير والتقدير ، وهذا ينسب إلى الله كما ينسب إلى خلقه ، فلقد جاء في الشعر العربي كما في زاد المسير لابن الجوزي قول زهير :
ولأنت تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْــضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي
فهذا المراد هاهنا أن بني آدم قد يصوِّرون ويقدِّرون ويصنعون الشيء، فالله خير المصوِّرين والمقدِّرين
قال الأخفش:
الخالقون هاهنا هم الصانعون فالله خير الخالقين
قال الرازى فى تفسيره
يقال:
خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس ([6])
وبناء على ما مر ذكره فلا يدل أبداً قوله تعالى ]أحسن الخالقين[ على أن هناك من يشارك الله في الإيجاد والبدء من عدم .
وذلك لأن الخلق الذي نفاه الله عن غيره وأثبته لنفسه فقط كما مر في قوله
" أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ " ([7])
وأيضاً قوله تعالى :
"أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" ([8])
هو خلاف الخلق الذي أثبته الله لنفسه ولبعض خلقه كما في قوله تعالى:
"فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " وقوله جل شأنه " أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ" وقوله سبحانه "وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا "([9])
ذلك أن الخلق الذي أثبته الله عز وجل لنفسه وللمسيح عليه السلام في الطير وللكفار في الإفك هو غير الخلق الذي نفاه عنهم وعن جميع الخلق فالخلق الذي أوجبه الله تعالى لنفسه ونفاه عن غيره هو الاختراع والإبداع وإحداث الشيء من لا شيء ومن العدم إلى الوجود وأما الخلق الذي أوجبه الله تعالى لبعض خلقه فإنما هو ظهور الفعل منهم فقط تقديرا وتصويرا وصنعاً دون أن يكون إيجاداً من العدم ، فخلق المخلوق لا يكون إلا بالتغيير والتحويل والتصرف في شيء خلقه الله تعالى .
ومن ذلك ما جاء في الصحيحين أنه يقال للمصورين يوم القيامة: "أحيوا ما خلقتم". ومعلوم أن المصور لم يوجد شيئاً من العدم إنما حول الطين، أو الحجر إلى صورة إنسان أو طير والطين والحجر والمواد والورق كلهم من خلق الله تعالى
فلفظ الخلق واحد وله معنيان فالمعنى الذي أثبته الله لنفسه فقط خلاف المعنى الذي أثبته لغيره
ومثال ما نحن فيه من أن المثبت خلاف المنفي مع أن اللفظ واحد ما ذكره الله عز وجل في قوله " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى "حيث إن الله عز وجل قد نفى عن نبيه الرمي مع أنه قد أثبته له رمياً بقوله : { إذ رميت } فعلم أن المثبت غير المنفي وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء : فابتداؤه الحذف وانتهاؤه الإصابة وكل منهما يسمى رميا فالمعنى حينئذ - والله تعالى أعلم : وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب .
ولذلك أجاز العلماء أن تطلق لفظ الخالق على العبد ، إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد كما أنه يجوز أن يقال رب الدار ، ولا يجوز أن يقال رب بلا إضافة ، ولا يقول العبد لسيده هو ربي كما جاء في تفسير الرازي عند تفسيره "أحسن الخالقين" .
وفي النهاية أقول كل من له مسكة من عقل يعلم أنه لا خالق لهذا الكون ولا لشيء فيه وجودا من بعد عدم إلا الله عز وجل ، فإذا نسب الخلق لغير الله كان المراد به معنى آخر سوى ذلك ، وإن هذا من مرونة اللغة العربية من حيث معانى الألفاظ ودلالة الأساليب ما يجعل هذا التعبير مستساغا ومقبولا بالمعنى اللائق لكل من يوصف به.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ المؤمنون آية 14
[1] ـ تاج العروس جـ 25 صـ 251
[2] ـ تفسير البحر المحيط جـ 2 صـ 487
[3] ـ الرعد آية 16
[4] ـ النحل آية 17
[5] ـ المؤمنون آية 14
[6] ـ التفسير الكبير جـ 2 صـ 89
[7] ـ الرعد آية 16
[8] ـ النحل آية 17
[9] ـ العنكبوت آية 17