البحث
صلاحية الرسالة ووحدانيتها
صلاحية الرسالة ووحدانيتها
لذا ، فإن الكثير من المستشرقين المنصفين رأوا في دعوة الرسول دعوة إصلاحية قوامها صلاح المجتمعات و توحيديته : أي المناداة بوحدانية الله ، وان مرحلة النبوة الحقة التي جعلت من الرسول قطب أقطاب رجالات التاريخ العظماء ، وبطل الأبطال الأفذاذ ، وخاتم الأنبياء أصحاب الرسالات الخالدة .
يقول المستشرق والمؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه صاحب كتابي ، (الحروب الصليبية) ، و ( مدنيات من الشرق ) في مؤلفه الأخير :
((كان محمد لما قام بهذه الدعوة شاباً كريما نجداً، ملآن حماسة لكل قضية شريفة ، وكان أرفع جداً من الوسط الذي يعيش فيه ، وقد كان العرب يوم دعاهم إلى الله منغمسين في الوثنية ، وعبادة الحجارة ، فعزم على نقلهم من تلك الوثنية إلى التوحيد الخالص البحت ،وكانوا يهتفون بالفوضى ، وقتال بعضهم بعضاً فأراد أن تؤسس لهم حكومة ديموقراطية موحدة ، وكانت لهم عادات وحشية همجية صرفة ، فأراد أن يلطف أخلاقهم ، ويهذب من خشونتهم )) .1
بينا نظر اليه المستشرق السويسري ادوار مونتيه ( 1810 - 1882 ) مدير جامعة جنيف ومدرس اللغات الشرقية - في مؤلفه : « المدنية الشرقية » » نظرته إلى الأنبياء التوراتيين القدماء بقوله :
« كان محمد نبياً بالمعنى الذي كان يعرفه العبرانيون القدماء ، ولقد كان يدافع عن عقيدة خالصة لا صلة لها بالوثنية ، وأخذ يسعى لانتشال قومه من ديانة جافة لا اعتبار لها بالمرة ، وليخرجهم من حالة الأخلاق المنحطة كل الانحطاط ، ولا يمكن أن يشك لا في إخلاصه ، ولا في الحمية الدينية التي كان قلبه مفعماً بها )) .2
ويقول مونتيه نفسه في مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن :
(( كان محمد نبياً صادقاً ، كما كان أنبياء بنى إسرائيل في القديم ، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه ، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين به كما كانتا متمكنتين في أولئك الأنبياء أسلافه فتحدث فيه كما كانت تحدث فيهم ، ذلك الإلهام النفسي ، وهذا التضاعف في الشخصية اللذين يحدثان في العقل البشرى المرائي والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي من بابها )) .3
هذا ، ولا بد من وقفة مطولة في دراسة صدق الرسول وصحة الرسالة الإسلامية ، في بحث مستقل سندرس فيه حقيقة الوحي ، وأن محمداً لم يؤلف القرآن ، ونرد على المزاعم الاستشراقية التي اتهمت الرسول بالصرح والجنون والاحتيال ، وبأن الوحي الذي سمعه في رؤاه الصادقة كان صوت الحقيقة الأبدية ، صوت الله الذي اختاره ليكون رسولاً للناس كافة .. . . . ونقول : أن الرسالة التي نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم قد حملته أعباء هائلة فوق طاقة البشر ، يقول آتيين دينيه :
(( نزل الوحي كجذوة وهاجة بددت من نفس محمد كل شك ، و أشعلت فيما تلك الآمال اللاشعورية ، و تلك القوى الكامنة التي كدسها في نفسه خمس عشر سنة تقضت في التأمل والتحنث . لقد فح الوحي عينيه على آفاق شاسعة . وأطلعه على ما يجب أن يقوم به نحو تلك الرسالة من جهود جبارة خطرة . لم يدر بخلد محمد يومأ ما أنه سيحمل هذا العبء، الهائل ، ولثن كان بعض الرهبان قد تنبئوا بشي ، منه ، فإنه لم يعر تنبؤاتهم أي اهتمام ، بل لقد نسيها ، وان اضطرابه وخوفه ، حينا فوجي بالوحي ، من أن يكون فريسة لتخيلات شيطانية ، ليؤكدان لنا صحة ما نقول .
وهذا محمد الذي كان يفر من الاختلاط ببني جنسه ، والذي كان يأبى أية وظيفة من تلك الوظائف العامة ، التي كان مواطنوه على استعداد لأن يمنحوها إياه ، وقد أصبح -تحت تأثير الوحي - مستعدا لأن يواجه الحياة الصاخبة الجارفة ، وقد امتلأ قلبه إيماناً مكيناً، وأفعمت نفسه بشجاعة لا تلين ، و تأهب للقيام بالرسالة ، بل تأهب للقيام بأعظم رسالة اؤتمن عليما إنسان . ولقد تأهب ، في غير ما خوف أو إشفاق من تلك الامتحانات الهائلة التي لا مفر من أن يبتلى بها أمثاله من الهداة المرسلين . في تلك الليلة الخالدة ، ليلة القدر ، نزل القرآن كله من السماء العليا حيث كان محفوظاً بها إلى السماء الدنيا ، التي تنتشر مباشرة فوق كرتنا الأرضية . وفي هذه السماء الدنيا وضع القرآن في بيت العزة ، ذلك البيت الذي على سمت بيت الله : الكعبة المقدسة )) .4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. رينيه غوسيه : مدينات الشرق.
2. ادوار رينيه : المدينة الشرقية.
3. ادوار مونتيه : نقلا عن الوحي المحمدي ، ص 45.
4. اتيين دينه : محمد رسول الله ، ص 110.