جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ

كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة على كل مسلم قادر على نفقاتها وتبعاتها، فقد فتح الله بابها بعد بيعة العقبة الثانية للأنصار، وذلك بعد البعثة بثلاث عشرة سنة تقريباً، ولم يغلق بابها إلا بعد فتح مكة حين قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ".

وقد بايعه الأنصار على أن ينصروه إذا هاجر إليهم، ويمنعوه من عدوه كما يمنعون أنفسهم وأبناءهم ونساءهم، فهاجر إليهم بعد أن هاجر كثير من أصحابه.

وقد جاءه رجل يبايعه على الهجرة كما بايعه الكثير من أصحابه، فقال: يا رسول الله، جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ. فهزته هذه الكلمة من الأعماق، وملأت عليه مشاعره، فقال له بوحي من قلبه الكبير: "ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا".

والمعنى: عد إليهما بقلبك وقالبك واعطف عليهما بكل ما تستطيع من أنواع العطف، حتى ترضيهما فيأذنان لك بالهجرة إن شاءا.

ويستفاد من هذه الوصية عدة فوائد:

الأولى: أن من الأدب أن يسترضي الولد والديه في كل أمر يعزم عليه. ومن الأدب أن يتولي إذهاب حزنهما كلما بدا عليهما الحزن ولا يغفل عن ملاحظة أحوالهما، لأنه مسئول عن أحوالهما النفسية كما هو مسئول عن أحوالهما المعيشية.

فإن الإسلام حريص كل الحرص على أن يحصل كل ذي حق على حقه كاملاً غير منقوص.

فللوالدين حق على ولدهما يجب أن يؤديه إليهما في حدود طاقته. وعلى الوالدين حق لولدهما يجب أن يؤدياه إليه.

وميزان العدل في هذا الدين أن يعطي المرء من الحقوق مثل ما عليه من الواجبات.

فإن تعارض واجبان قدم الأولى منهما.