البحث
غَزْوَةُ الفَتْحِ الأعْظَم-
(فَتُح مَكَّة):
لَقَدْ وَرَدَ فِي اتِّفاقِيَّةِ صُلْحِ الحدَيْبَيةِ أَنَّ خُزَاعةَ دَخلَتْ فِي عَقْدِ الرَّسُول صلى الله عليه و سلم، وبَكْرًا دَخَلَتْ فِي عَقْدِ قُريشٍ, ثُمَّ إِنْ رَجُلاً مِنْ خُزَاعَة سَمِع رَجُلاً مِنْ بَكْرٍ يُنْشِدُ شِعْرًا فِي هِجَاء النبيِّ صلى الله عليه و سلم، فضرَبَه فشجَّه، فَهاج الشرُّ بيْنَهمْ، وَعَزَمَ بَنُو بكْرٍ عَلى مُحَارَبةِ خُزَاعَةَ، وَطلَبُوا النجْدَةَ مِنْ قُريْشٍ فَأعانُوهُمْ بالسِّلَاحِ والدَّوابِّ، وَقَاتَلَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ قُريشٍ مُختَفِين مِنْهمْ صَفْوانُ بْنُ أميَّةَ وَعِكْرَمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَسُهيلُ بْنُ عَمْرٍو، فَانحازَتْ خُزاعَةُ إِلى الحرَمِ لائِذَةً بِه، إِلَّا أنَّ بكرًا لم تحتَرِمِ الحرَمَ، وقاتَلَتْ خُزاعةَ بِهِ, وقتَلُوا مِنْهُمْ مَا يَزيدُ عَلَى العِشْرِينَ.
وَبِهذَا نقضَتْ قُريشٌ مُعاهدَةَ الصُّلْحِ الَّتِي بينَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم، إِذْ أَعَانَتْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ النبيِّ صلى الله عليه و سلم. فَلَمَّا أَعْلمتْ خُزاعةُ النبيَّ صلى الله عليه و سلم بما فُعِلَ بِهِمْ قَالَ: "لَأَمْنَعَنَّكُمْ مِمَّا أَمْنَعُ مِنْهُ نَفْسِيْ".
ثُمَّ إِنَّ قريْشًا نَدِمَت عَلَى ما فَعَلَتْ حَينَ لا يَنْفَعُ النَّدمُ، فأرْسَلُوا أَبَا سُفيانَ إِلى النبيِّ صلى الله عليه و سلم ليجدِّدَ عهدَ الحديْبيةِ وَيَزِيدَ فِي المدَّة، إِلَّا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلم أَعرضَ عَنْه ولم يجِبْه، فاسْتَعَانَ بِكِبَارِ الصَّحَابَةِ؛ أَنْ يتوسَّطُوا بَينَهُ وَبَينَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم فَأَبَوْا جَمِيعًا, فَرجَع أَبُو سُفيانَ إِلَى مَكَّة مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحظَى بأيِّ اتِّفاقٍ أَوْ عَهْدٍ.
وَأَمَامَ نَقْضِ قُريشٍ للعُهُودِ وَالموَاثِيقِ مَع المسْلِمينَ فَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم عَلَى فَتْحِ مَكَّة وتأدِيبِ كُفَّارِها.
وَلمّا تجهَّز رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم لفتْحِ مَكَّة أَخْفَى أمْرَه، لأنَّه أَرادَ أَنْ يبغَتَ المشْرِكينَ في عُقر دَارِهم.
وَبعثَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم إِلى مَنْ حَوْلَه مِنَ العَربِ؛ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ, وَمُزيْنةَ وَجهينةَ، وأشْجَعَ وَسُلَيْمٍ, حَتَّى بَلَغَ عددُ المسْلِمينَ عَشْرَة آلافِ رَجُلٍ. وَاسْتَخْلفَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم عَلَى المدينةِ أَبَا رُهْمٍ الغفَارِيِّ, وخَرَجَ يَوْمَ الأَرْبِعاءَ لعشْرِ ليالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمضان, وَعقد الألْوِيةَ والراياتِ بقَديدٍ.
ولَمْ يبلُغْ قريشًا مَسيرُه, فَبعثُوا أَبَا سُفْيانَ يتحسَّس الأخْبارَ, وقَالُوا: إِنْ لقيتَ مُحمدًا، فخُذْ لَنَا مِنْه أمانًا.
فَخرجَ أَبُو سفيانَ وَحَكِيمُ بْنَ حَزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاء، فَلَمَّا رأوا العسْكَر فزِعُوا, فسمِعَ العبَّاسُ صَوتَ أبِي سُفيانَ، فقالَ: أَبَا حنْظلةَ! قَالَ: لبَّيك. قالَ: هذَا رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم فِي عشرَةِ آلافٍ، فأسْلَمَ أَبُو سُفيانَ فَأجارَهُ العبَّاسُ، وَدَخَلَ بِه وبصاحِبَيْهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم فأسْلَمَا.
وَأمر النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم العبَّاسَ أنْ يذهبَ بأبِي سُفيانَ فيُوقِفَه فِي طَرِيق مُرُورِ الجيْشِ الإسْلَامِيِّ؛ لِيرَى بأمِّ عَيْنَيْهِ قُوَّةَ الإسْلامِ والمسْلِمينَ, وَأَشَارَ العبَّاسُ عَلَى النبيِّ صلى الله عليه و سلم بأنْ يجعَلَ لأبِي سُفيانَ شَيْئًا يفْتَخِرُ بِهِ, لأنَّه رَجُلٌ يُحبُّ الفخرَ فجَعل النبيُّ صلى الله عليه و سلم: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُو آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ, وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَه فَهُوَ آمِنٌ".
وَنَهى رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم عَنِ القِتالِ, وَقَدْ أَوْصَى أُمرَاءَه أَلَّا يَقْتُلوا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ, فَلَمْ يلْقَ المسلِمونَ مُقاوَمَةً، غَيْرَ خَالدِ بْنِ الوَليدِ، فإنَّه لَقِيَه صَفْوانُ ابْنُ أميَّة وسُهيْلُ بْنُ عَمْرٍو وعِكْرَمةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ, فِي جَمْعٍ مِنْ قُريْشٍ بالخَنْدَمَةِ، فَمنعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ، وَشَهرُوا السِّلَاح وَرَموا بالنَّبْلِ، فَصَاحَ خَالِدُ فِي أصْحَابِه وقاتَلَهمْ, فَقَتَلَ مِنَ المشْرِكينَ نَحْوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً, ثُمَّ انهزَمُوا, وَقُتِل مِنَ المسْلِمين كَرْزُ بْنُ جَابر وحُبَيْش بْنُ خَالِدِ بْنِ ربيعةَ.
وَضُربتْ للنبيِّ صلى الله عليه و سلم قُبةٌ بالحجُونِ, وَدَخل مكَّةَ عُنوةً, فأسْلَمُوا طائِعينَ وَكَارِهينَ, فَطافَ بالبيْتِ عَلَى راحِلَتِه, وَحَوْلَ الكعبةِ ثَلاثُمائةٍ وستُّونَ صَنمًا, فَجَعَلَ كُلَّما مَرَّ بصَنَمٍ مِنْهَا يُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَضِيبٍ فِي يَدِه ويَقُولُ: صلى الله عليه و سلم رضي الله عنه فَيقَعُ الصَّنَمُ لوجْهِهِ, وَكَانَ أعظمُهَا هُبَلُ وكانَ تِجاه الكَعْبَةِ, ثُمَّ جَاءَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم إِلى المقَامِ, فَصَلَّى خَلْفَه ركْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ للنَّاسِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟" قَالوا: خَيرًا؛ أَخٌ كَريمٌ, وابْن أخٍ كريمٍ. قال: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ" فَعَفَا عَنْهم بَعْدَ أَنْ أمْكَنه اللهُ منْهمْ, وَضَرَبَ بذَلِكَ المثْلَ فِي العفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الجُنَاةِ بَعْدَ القدْرةِ عَليهِمْ والتمَكُّن منْهم ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم عَلَى الصَّفا فبايَع النَّاسَ عَلَى الإسْلَامِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِيما استَطاعُوا, ثُمَّ تَتَابع النَّاسُ.
وَكانَ الفَتْحُ يَومَ الجُمُعةِ لعَشْرٍ بَقيْنَ مِنْ رمضانَ وأقامَ بمكَّةَ خمسَ عَشرَة ليلةً, ثُمَّ خَرجَ إِلى حُنَيْنٍ, وَاستَعْمل عَلى مَكَّةَ عُتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ يُصلي بِهم، ومُعَاذَ بْنَ جَبلٍ يُعلِّمُهم السُّنَن والفِقْهَ(1).
____________________________________
1-
نظر: الوفا ص( 718 – 720), هذا الحبيب يا محب ص(254)، وصحيح السيرة ص(407