البحث
النداء الرابع : وجوب القصاص في القتلى
8498
2011/07/04
2024/12/22
المقال مترجم الى :
English
وجوب القصاص في القتلى
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }سورة البقرة
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ فَرَضَ ( كَتَبَ ) عَلَيْهِمُ العّدْلَ وَالمُسَاوَاةِ فِي القِصَاصِ ، فَالحُرُّ يُقْتَلُ بِالحُرِّ ، إِذا كَانَ القّتْلُ عَمْداً ، وَالعَبْدُ يُقْتَلُ بِالعَبْدِ ، وَالأُنْثَى تُقْتَلُ بِالأُنْثَى ( وَقَدْ جَرَى العَمَلُ مِنْ لَدُنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ ، وَالحُرِّ بِالعَبْدِ إِنْ لَمْ يَكُنِ القَاتِلُ سَيِّدَ العَبْدِ ، فَإِذا كَانَ سَيِّدَهُ عُزِّرَ بِشِدَّةٍ ) ، وَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَلاَّ يَعْتَدُوا وَلا يَتَجَاوَزُوا ، كَمَا اعْتَدَى اليَهُودُ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَغَيَّرُوا حُكْمَ اللهِ ، فَكَانَتْ قَبِيلَةُ بَنِي قُرَيْظَة ضَعْيفةً ، وَقَبِيلَةَ بَنِي النَّضِيرِ قَوِيَّةً ، فَكَانًوا إِذَا قَتِلَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَحَداً مَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَكُنْ يُقْتَلُ بِهِ بَلْ يُفَادَى ، وَإِذَا قَتَلَ القُرَظِيُّ نَضِيرِيّاً كَانَ يُقْتَلُ بِهِ ، وَإِذَا فَادَوْهُ كَانَ يُفَادَى بِمِثْلَيْ مَا يُفَادَى بِهِ النَّضِيْرِيُّ .
وَكَانَ حَيَّانِ مِنَ العَرَبِ قَدْ اقْتَتَلا فِي الجَاهِليَّةِ قُبَيْلَ الإِسْلامِ ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى وَجِرَاحَاتٌ حَتَّى قَتَلُوا العَبيدَ والنِّسَاءَ ، فَكَانَ أَحَدُ الحَيَّينِ لاَ يَرْضَى حَتَّى يَقْتُلَ بِالعَبْدِ مِنهُ الحُرَّ مِنْ خُصُومِهِ ، وَبِالمَرْأَةِ مِنْهُ الرَّجلَ . وَكَانَ هؤُلاءِ لاَ يَقْتُلونَ الرَّجُلَ الذِي يَقْتُلُ المَرْأَةَ عَمْداً ، وَلكِنْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ ، وَالمَرْأَةَ بِالمَرْأَةِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ : النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنُ بِالعَيْنِ مُبْطِلاً ذلِكَ التَّعَامُلَ ، فَإِذا قَبِلَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأَخُذَ الدِّيَةَ ، وَيُعْفُو عَنِ القَاتِلِ ، فَعَليهِ أَنْ يَتَّبعَ ذلِكَ بِالمَعْرُوفِ ، وَأَنْ يَطْلُبَ الدِّيَةَ بِرِفْقٍ ، وَأَنْ لاَ يُرْهِقَ القَاتِلَ مِنْ أَمْرِهِ عُسْراً . وَعَلَى القَاتِلِ أَنْ يُؤَدِّيَ المَطْلُوبَ مِنْهُ بإِحسَانٍ ، وَأَنْ لا يَمْطُلَ وَلاَ يَنْقُصَ ، وَلا يُسيء فِي كَيْفيَّةِ الأَدَاءِ .
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّهُ شَرَعَ للناَّسِ أَخْذَ الدِّيَةِ فِي حَالَةِ القَتْلِ العَمْدِ تَخْفِيفاً مِنْهُ ، وَرَحْمَةً بِالمُسْلِمِينَ ، إِذْ كَانَ يَتَوَجَّبُ عَلَى الأُمَمِ السَّالِفَةِ القَتْلُ أَوِ العَفْوُ . وَإِذَا تَعَدَّدَ أَوْلِياءُ الدَّمِ وَعَفَا أَحَدُهُمْ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ ، وَسَقَطَ القِصَاصُ . . وَيَجُوزُ العَفْوُ فِي الدِّيَةِ أَيْضاً . ( وَقِيلَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ مَفْرُوضاً عَلَيهِمُ القَتْلُ لاَ غَيْرَ ، وَأَهْلَ الإِنْجِيلِ أُمِرُوا بِالعَفْوِ ، وَلَيسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مُقَابِلَ العَفْوِ دِيَةً ) .
وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ يَعْتَدِي بِالقَتْلِ عَلَى القَاتِلِ - بَعْدَ العَفْوِ وَالرِّضَا بِالدِّيَةِ - بِالعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ .
فِي القِصَاصِ رَاحَةُ البَالِ ، وَصِيَانَةُ النَّاسِ مِنِ اعتِدَاءِ بَعْضِهمْ عَلَى بَعْضِهِم الآخَرِ ، لأَنَّ مَعْرِفَةَ النَّاسِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ يُعَاقَبُ بِالقَتْلِ ، تَحْمِلُهُمْ عَلَى الارتِداعِ عَنِ القَتْلِ ، فَتُصَانُ حَيَاةُ النَّاسِ ، وَحَيَاةُ مَنْ يُفَكِّرُ بِالقَتْلِ . وَخَصَّ اللهُ تَعَالَى بِالنِّداءِ أَرْبَابَ العُقُولِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى أَنَّ الذِينَ يَفْهَمُونَ قِيمَةَ الحَيَاةِ ، وَيُحَافِظُونَ عَلَيهَا هُمُ العُقَلاَءُ . وَإِذا تَدَبَّرَ أُولًو الأَلبَابِ الحِكْمَةَ مِنْ شَرْعِ القِصَاصِ حَمَلَهُمْ ذلِكَ عَلَى اتِّقَاءِ الاعتِدَاءِ ، وَالكَفِّ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ .
النداء للذين آمنوا . . بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله ، الذي آمنوا به ، في تشريع القصاص .
وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى ، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى . وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة ، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة ، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى؛ وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص .
وهذه الشريعة التي تبينها الآية : أنه عند القصاص للقتلى - في حالة العمد - بقتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .
{ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } . .
وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلاً من قتل الجاني . ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه ، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة . ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال . تحقيقاً لصفاء القلوب ، وشفاء لجراح النفوس ، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء .
وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة :
{ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } . .
ولم يكن هذا التشريع مباحاً لبني إسرائيل في التوراة . إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التراضي والصفاء .
{ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } . .
وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة . . يتعين قتله ، ولا تقبل منه الدية . لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول ، نكث للعهد ، وإهدار للتراضي ، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب ، ومتى قبل ولي الدم الدية ، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي .
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام؛ وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها؛ ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع . . إن الغضب للدم فطرة وطبيعة . فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص . فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس ، ويفثأ حنق الصدور ، ويردع الجاني كذلك عن التمادي ، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو ، ويفتح له الطريق ، ويرسم له الحدود ، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع ، لا فرضاً يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق .
وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة . نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقاً : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . . الآية } . . قال ابن كثير في التفسير : وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم . حدثنا أبو زرعة . حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير . حدثني عبد الله بن لهيعة . حدثني عطاء بن دينار . عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } - يعني إذا كان عمداً - الحر بالحر . . . وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية - قبل الإسلام بقليل . فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا .
فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، والمرأة منا الرجل منهم . . فنزل فيهم : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . . منسوخة نسختها : { النفس بالنفس } وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : { النفس بالنفس } .
والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس . . وأن لكل منهما مجالاً غير مجال الأخرى . وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين ، على فرد معين أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك . فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمداً . . فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي - كحالة ذينك الحيين من العرب - حيث تعتدي أسرة على أسرة ، أو قبيلة على قبيلة ، أو جماعة على جماعة . فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء . . فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك ، والعبد من هذه بالعبد من تلك ، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك . وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة؟
وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية ، ولا تعارض في آيات القصاص.
ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } . .
إنه ليس الانتقام ، وليس إرواء الأحقاد . إنما هو أجل من ذلك وأعلى . إنه للحياة ، وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة . . ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة ، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله . .
والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء . فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمناً لحياة من يقتل . . جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد . كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل . شفائها من الحقد والرغبة في الثأر . الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم . وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم ، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل ، ولا تكف عن المسيل . .
وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم . فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها ، واعتداء على كل إنسان حي ، يشترك مع القتيل في سمة الحياة . فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة ، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها . وكان في هذا الكف حياة . حياة مطلقة . لا حياة فرد ولا حياة أسرة ، ولا حياة جماعة . . بل حياة . .
ثم - وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة - استجاشة شعور التدبر لحكمة الله ، ولتقواه : { لعلكم تتقون } ..
هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء . الاعتداء بالقتل ابتداء ، والاعتداء في الثأر أخيراً . . التقوى . . حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه .
إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة ، ولا يفلح قانون ، ولا يتحرج متحرج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان!
وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء ، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختاراً . . لقد كانت هنالك التقوى . . كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر ، وفي حنايا القلوب ، تكفها عن مواضع الحدود . . إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب . . وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى ، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور . نظيف الحركة نظيف السلوك . لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير!
« حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً ، تفادياً من سخط الله ، وعقوبة الآخرة » .
إنها التقوى . . إنها التقوى . .