البحث
عند القيام بالواجبات الدينية
يقول الله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الإِنْسَ وَالْجِنَّ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" ( الذاريات، 56 ) . يعلمنا الله في هذه الآية أنّه خلق الإنسان ليعبده في الأرض، وليس الإنسان فقط بل كلّ شيء خلقه الله الهدف منه عبادته و تسبيحه، لذلك فإن عبادة الله هي بالنسبة لمن يتخذ القرآن دليلا في حياته هي فوق كل شيء، لذلك يكون خلال العمر القصير مستعدا للآخرة فيسعى إلى كسب مرضاة الله في كل لحظة من لحظات يومه.
المؤمن يعي جيدا أن العيش وفق الأخلاق القرآنية ليس في جانب من الحياة الدنيا ولا مرحلة معينة من مراحل الحياة بل تشمل الحياة كلها، فيحرص دائما على تطبيق أوامر الله تعالى ويسعى إلى فعل الخير والعمل الصالح أكثر فأكثر، كما يقوم بواجباته الدينية في أوقاتها المحددة ويعمل على القيام بعمل آخر مفيد كلما انتهى من عمل تأييدا عملا بقوله تعالى:" قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" ( الأنعام، 162 ) .
المؤمن إذن دائما وراء خير الأعمال وأحسنها دون انقطاع ولا توقف، و المؤمن الحق هو من إذا أنهى عملا بدأ في غيره لأن كل لحظة من حياته ينبغي أن تكون في عبادة الله وكسب مرضاته لأنه يعلم أنه سيقدم على حساب عسير في الآخرة، لذلك تراه يحرص على قضاء كل لحظة من لحظات حياته في الأعمال الصالحة طمعا في كسب مرضاة الله وتطبيق أوامره كما جاء في قوله تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ " ( الإنشراح، 7 ) كما يقول تعالى: "...وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا" ( مريم، 76 ). وفي بعض الآيات الأخرى يدعو الله المؤمنين إلى الاستقرار والثبات على العبادات والأخلاق التي يحبها فيقول: "رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا" ( مريم، 65 ).
الإنسان الجاهلي يتعامل مع هذا الموضوع بمنطق ظالّ مثل الشك في اليوم الآخر وغير ذلك من الأفكار المنحرفة، لكنّه يقوم في بعض الأحيان بالعبادات بشكل عرضيّ.
بعض الناس هدفهم الوحيد إصابة ما لذّ و طاب من الدنيا، لذلك يظهرون حرصا شديدا فيسعى جاهدا إلى أن يكون غنيا أو صاحب منصب أو تحقيق منافع من الآخرين. كلّ ذلك سيذهب هباءً بعد مدّة قصيرة "ثَمَنًا قَلِيلاً" ( التوبة، 9 )، وهؤلاء الناس يدخلون في سباق كبير من أجل ذلك المتاع القليل. أمّا المؤمنون الراغبون في الجنة الساعون فقط لكسب مرضاة الله فقد عرّف القرآن الكريم خصائصهم في قوله تعالى:" وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا" (الإسراء، 19 ) .
المؤمن الحق هو من يقضي يومه جاهدا لكسب مرضاة الله ويقوم بواجباته الدينية على الوجه الأكمل، و كلّ أفكاره وتصرّفاته هي في سبيل الله تعالى، فهو يفكّر في قدرة الله اللاّمحدودة وعلمه الواسع وجمال خلقه وغيرها من صفات الله تعالى، قال الله تعالى: "..وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّْح بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ" ( آل عمران، 41 ). كما يقول تعالى: "الّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ " ( الرّعد، 28 ).
إنّ المؤمن الذي يتخذ من الأخلاق القرآنية طريقا يكون حريصا جدّا على أداء الصلاة في أوقتها ولا يسمح لمشاغل الدنيا أن تلهيه عن أداء عباداته في أوقاتها، وهو يؤدّيها بكلّ فرح وخشوع لأنّها وسيلة تقرّبه من الله . أمّا الّذين يؤدّون الصلاة رياء أو خشية من النّاس فلا يعيشون لذّة العبادة، أو يصرفون أذهانهم إلى أشياء أخرى عوض أداء الصلاة ولا يفكّرون في الأعمال التي تقرّبهم من الله تعالى فتتشتت أفكارهم في المشاكل اليومية, لذلك نبه الله تعالى هؤلاء في قوله تعالى: "الََذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ" ( الماعون، 4-6 ).
إن مثل هؤلاء يظنون أنّهم يتعبّدون من أجل مرضاة الله دون الخوف من الله ولا التفكير فيه ودون الإحساس بوجوده والتقرّب إليه، فهم في غفلة من أنفسهم. فالتقوى هي الطريق الوحيد للتقرب إلى الله تعالى.
سوف لن نتناول في هذا الكتاب منطق العبادات في الجاهلية، ولمن أراد المزيد من المعلومات في هذا الخصوص يمكنه الرجوع إلى كتابنا "دين الرّجولة" .
نودّ التوقف عند نقطة مهمة في موضوعنا وهي أن بعض الناس يحصرون العبادات في أشياء محدودة فيظنون أن العبادات هي مجرد تطبيق بعض أوامر الله فقط، غير أنّ العبادات لا تقف عند أداء الصلاة والصيام والحجّ والزّكاة وجملة الفرائض فقط، العبادة بمعنى التعبد أي أن يكون الإنسان عبدا لله في كلّ حركاته وسكناته وتصرّفاته، و بقدر ما تكون الصلاة فرضا واجبا على الإنسان كذلك الابتعاد عن الغضب والالتزام بالقول الحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتجنب الظنّ والابتعاد عن الجدال، كلّ هذا من صميم العبادة. ( لمزيد من التفاصيل أنظر كتاب هارون يحيى "أسرار الأحكام القرآنية")، لذلك يجب الالتزام بكلّ حرص وثبات بالعبادات الفعلية والعبادات الأخلاقية معا. وباختصار على المؤمنين تطبيق كلّ الأحكام القرآنية في كلّ ميادين الحياة بكلّ دقّة وعناية.
يعتبر التبليغ أي دعوة الناس إلى الطريق الحقّ وفعل الخير وتجنب الشكّ من أهمّ العبادات التي كلّف به المؤمنون، وهي جزء من حياته اليومية. فالمؤمن بحديثه وتصرّفاته ونشاطه في كلّ الميادين الحياتية مطالبٌ بالحديث عن الدين ومطالبٌ بأن يكون نموذجا يحتذى به، وهذا التكليف ليس أمام الذين لا يعرفون الدّين فقط بل هو مطالب بنفس الخُلق في محيطه ومع إخوانه المؤمنين، فيكون مثالا للأخلاق العالية عملا بقوله تعالى: "وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" ( التوبة، 71 ).
على المؤمنين اتباع كلّ الوسائل لدعوة الناس إلى الأخلاق القرآنية فيقنعهم بأن الله واحد أحد له الصفات الحسنى خلق الإنسان ليعبده في الأرض، و يعلّم الناس السلوك الذي يحبه الله والعيش ضمن الأخلاق القرآنية وينير لهم طريق الحق ويتبادل معهم الحديث عن الجنة والنار ويوم القيامة.
إن حديث المؤمنين فيما بينهم ينبغي أن يتركز على التواصي بتطبيق الأحكام الشرعية ودعوة بعضهم البعض إلى التخلق بأخلاق القرآن بكل إخلاص. وباختصار التبليغ هو هداية الناس إلى السلوك الأخلاقي المقبول عند الله. والمؤمن يعتمد الحوار والعلم وسائل للتبليغ، ويمكننا اليوم الاستفادة من التطورات العلمية في هذا الخصوص، فيمكن استعمال الراديو والتلفزيون والكتب والمجلات والجرائد والرسائل وغيرها وسائل لتبليغ الدعوة.
إنّ المؤمن الملتزم بالأخلاق القرآنية يجب عليه أن يتهيّأ للاضطلاع بمهمّة الدعوة وذلك من خلال كسب المعرفة والإلمام بكلّ الميادين والتسلح بالعلم حتى يشرح للآخرين الدين على الوجه الصحيح، بمعنى على المؤمن أن يستعدّ معنويّا وعلميا فيكون قادرا على الإقناع ومُشبعا لحاجة المتلقّي للمعرفة ومؤثرا في السامع... و الأساس في كلّ ذلك أن يكون حافظا للقرآن عارفا بالأحاديث النبوية.
هكذا تشغل كلّ هذه الاستعدادات والأعمال حيّزا هامّا في الحياة اليومية للمسلم.