البحث
أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم في المجالس
المجالس مجمع الناس ومختلطهم فيقع منهم أشياء ربما توافق الشرع وربما تخالفه ، فكان عليه السلام إذا رأى شيئا من ذلك نبّه عليه ، حتى تكون مجالسهم بعيدة عن المنكرات والآداب السيئة ، وحتى تغمرهم الفضيلة والمحبة وهذا واجب المسلم إذا حضر مجالس العامة أن ينكر عليهم بعض ما يقعون فيه من منكرات ومخالفات وينصحهم ويرشدهم إلى الخير .
فعن الثريد بن سويد رضي الله عنه قال : (( مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا ، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على آلية [1] يدي فقال : (( أتقعد قعدة المغضوب عليهم ))[2].
وعن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس ؟ اسكنوا في الصلاة )) .
قال ثم خرج فرآنا حلقا . فقال : (( مالي أراكم عزين ))[3] . أخرجه مسلم [4].
قال النووي ـ رحمه الله ـ : (( معناه النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع ))[5] .
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ـ قال (( كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان )) فلم ينزل بعد ذلك منزلة إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال : لو بسط عليهم ثوب لعمهم [6] . أخرجه أبو داود .
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : تجشأ[7] رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( كف جشأك عنا فإن أطولكم جوعا يوم القيامة أكثركم شبعا في دار الدنيا ))[8] أخرجه ابن ماجه واللفظ له .
وقد يشوب بعض هذه المجالس الكذب من أحاديث أو قصص أو طلب كاذب ليمزحوا به ، وقد اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم كذباً .
فعن أسماء بنت يزيد بن السكن في حديث زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة ـ رضي الله عنها ـ بعد أن شرب من اللبن : ثم قال لنسوة عندي ناوليهن ، فقلن : لا نشتهيه ، فقال الني صلى الله عليه وسلم : (( لا تجمعن جوعاً وكذباً فهل أنت منتهية أن تقولي لا أشتهيه )) فقلت : أي أمة لا أعود أبداً )) . أخرجه أحمد [9] .
وعن عبد الله بن زمعة ـ رضي الله عنه ـ قال : (( ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة ، وقال : لم يضحك أحدكم مما يفعل ))[10] متفق عليه واللفظ للبخاري .
وللأكل آداب وأخلاق يجب قبل الأكل فعلها كالبسملة والأكل باليمين وعدم التخبط في الأكل والخوض في الطعام . وكل هذه الآداب كان ـ عليه السلام ـ يرشد أمته إليها ويؤدبهم بها ، لأن الجاهلية لم تعلمهم مثلها .
فعن أبي جحيفة ـ رضي الله عنه ـ قال (( كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده : (( لا آكل وأنا متكيء )) [11] . أخرجه البخاري .
وعن سلمة بن الأكوع : أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال : (( كل بيمينك )) قال : لا أستطيع . قال : (( لا استطعت ما منعه إلا الكبر . قال : فما رفعها إلى فيه ))[12] .
وعن عمر بن أبي سلمة قال : (( كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك )) ، فما زالت تلك طعمتي بعد [13] . متفق عليه واللفظ للبخاري .
وعلق الخطابي ـ رحمه الله ـ على حديث أبي جحيفة فقال : يحسب أكثر العامة أن : المتكئ هو المائل المعتمد على أحد شقيه لا يعرفون غيره وكأن بعضهم يتأول هذا الكلام على مذهب الطب ، ودفع الضرر عن البدن ، إذ كان معلوما أن الآكل مائلا على أحد شقيه لا يكاد يسلم من ضغط يناله في حجاريي طعامه ، فلا يسيغه ولا يسهل نزوله معدته . ليس معنى الحديث ما ذهبوا غليه وإنما المتكئ هنا : هو المعتمد على الوطأ الذي تحته ، وكل من استوى قاعدا على وطأ : فهو متكئ . والاتكاء مأخوذ من الوكاء ، ووزنه الافتعال منه . فالمتكئ هو الذي أوكى مقعدته وشدها بالقعد على الوطأ الذي تحته ، والمعنى أني إذا أكلت لم أقعد متمكنا على الأوطية والوسائد فعل من يريد أن يستكثر من الأطعمة ويتوسع في الألوان ولكني آكل علقة ، وآخذ من الطعام بلغة فيكون قعودي مستوفزا له ))[14] اهـ [15] .
قال النووي ـ رحمه الله ـ في استخلاصه للفائدة من حديث سلمة وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال حتى في حال الطعام [16] .اهـ .
قال الحافظ في الفتح : وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في حال الأكل وفيه استحباب تعليم أدب الأكل والشرب ، وفيه منقبة لعمر بن أبي سلمة لامتثاله الأمر ومواظبته على مقتضاه ))[17] . اهـ .
[1] - الية : اللحمة في ضرة الإبهام . وحماة الساق . والمجاعة .والمشحمة . ترتيب القاموس لظاهر الزاوي ( 1/174 ) .
[2] - أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب ( 5/176-177/ح4848 ) والحاكم في الأدب ( مورد 1956 ) والبيهقي في الجمعة ( 3/236 ) .
[3]- عزين : أي متفرقين جماعة جماعة وهو بتخفيف الزاي الواحدة عزة . اهـ . شرح صحيح مسلم للنووي (4/153 ) .
[4] - أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة ( 1/322/ح430 ) وسنن أبي داود في الأدب ( 5/163/ح4823 ) وأحمد (5/93) والطبراني في الكبير ( 2/222/ح1823 ) .
[5] - شرح صحيح مسلم للنووي ( 4/153 ) .
>[6] - أخرجه أبو داود في سننه كتاب الجهاد ( 3/94-95/ح2618 ) ، وأحمد (4/193 ) وابن حبان في الجهاد ( موارد1664 ) والحاكم في الجهاد ( 2/115 ) وقال صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي .
[7]- تجشأ : التجشؤ هو تنفس المعدة عند الامتلاء .اهـ . اللسان لابن منظور ( 1/525 ) .
[8] - أخره ابن ماجه في سننه كتاب الأطعمة ( 2/1111/ح3350 ) وله شاهد من حديث ابن عمرو قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/31) رواه الطبراني ، وعن ابن عباس قال المنذري في الترغيب والترهيب ( 3/123 ) رواه الطبراني بإسناد حسن اهـ . وعن سلمان أخرجه ابن ماجه ( 2/1112/ح3351 ) .
[9] - أخرجه أحمد ( 6/458 ) والحميدي ( 1/180-181 ) .
[10]- أخرجه البخاري في صحيحه فتح الباري كتاب التفسير ( 8/705/ح4942 ) وصحيح مسلم في الجنة ( 4/2191/ح2855 ) ، وسنن الترمذي في التفسير ( 5/440-441/ح3343 ) . وقال : حسن صحيح .
[11] - أخرجه البخاري في صحيحه فتح الباري كتاب الأطعمة ( 9/540/ح5399 ) وسنن أبي داود في الأطعمة ( 4/140-141/ح3769 ) ، وسنن الترمذي في الأطعمة ( 4/273/ح1830 ) وقال حسن صحيح وسنن ابن ماجه في الأطعمة (2/1086/ح3262 ) والشمائل للترمذي ( ح 14 ) .
[12] - أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الأشربة ( 3/1599/ح2021 ) ، أحمد ( 4/45-46 ) وابن أبي شيبة في العقيقة (8/105/ح4497 ) والطبراني في الكبير ( 7/15/ح6235 ) .
[13] - أخرجه البخاري في صحيحه فتح الباري كتاب الأطعمة ( 9/521/ح5376 ) وصحيح مسلم في الأشربة ( 3/1599-1600/ح2022 ) ، وسنن ابن ماجه في الأطعمة ( 2/1087/ح3265،3267 ) ، والبغوي في شرح السنة في الأطعمة (11/274-275/ح2823 ) ، والحميدي ( 1/259/ح570 ) ، والدارمي ( 2/21/ح2025 ) ، وأبو عوانة في الأطعمة ( 5/361-362 ) .
[14] - مستوفزا واستوفز في قعدته انتصب فيها غير مطمئن أو وضع ركبتيه ورفع إليتيه ، أو استقل على رجليه ولما يستو قائما وقد تهيأ للوثوب . ترتيب القاموس . لطاهر الزاوي ( 4/637 ) .
[15]- معالم السنن للخطابي ( 5/301-302 ) .
[16]- شرح صحيح مسلم للنووي ( 13/192 ) .
[17] - فتح الباري شرح صحيح البخاري ( 9/523 )