البحث
آل النَبِي -صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم-
كلمة "آل" كثيرة الاستعمال في لغة العرب، وتطلق على آل النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره: وهذا مبني على خلاف استقاقها، وسنعرض ذلك فيما يلي:
بنيتها اللغوية: قيل: أصله "أهل" قلبت الهاء همزة ثم سهلت، على قياس أمثالها فقيل: آل، ولهذا إذا صُغِّر رُد إلى الأصل، فقالوا: أُهيْل، وقيل: بل أصله أول من آل يَؤول إذا رجع، ذكر صاحب لسان العرب في باب الهمزة والواو واللام: سُمِّي بذلك من يؤول إلى الشخص ويُضاف إليه، ويقويه: أنه لا يضاف إلا إلى مُعظَّم , فيقال لحملة القرآن: آل الله، وكذا آل محمد والمؤمنين الصالحين، ولا يقال آل الحجام، وآل الخياط، بخلاف أهل. ولا يضاف آل أيضاً إلى غير العاقل، ولا إلى المضمر عند الأكثر، وجوزه بعضهم بقلة. وقد ثبت في شعر عبد المطلب قوله في قصة أصحاب الفيل. وانصر على آلِ الصلِيـْــــــبِ وعابديـه اليوم آلَك وقد يطلق آل فلان على نفسه، وعليه وعلى من يضاف إليه جميعاً، وضابطه أنه إذا قيل: فعل آل فلان كذا، دخل هو فيهم إلا بقرينة، ومن شواهده قوله -صلى الله عليه وسلم- للحسن بن علي –رضي الله عنهما-: (إنَّا -آلَ محمدٍ - لا تحِلُّ لنا الصّدقة)(1). وإن ذكرا معاً، وهو كالفقير والمسكين، وكذا الإيمان والإسلام، والفسوق والعصيان(2).
معناها على قولين: - قالت طائفة: يُقال آل الرجل له نفسه، وآل الرجل لمن يتبعه نفسه، وآله لأهله وأقاربه، فمن الأول قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاءه أبو أوفى بصدقته: (اللَّهم صلَّ على آل أبي أوْفى)(3)، وقوله تعالى: سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) سورة الصافات. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم)(4). فآل إبراهيم هو إبراهيم؛ لأن الصلاة المطلوبة للنبي هي الصَّلاة على إبراهيم نفسه، وآله تبع له فيها. - وقال آخرون: لا يكون الآل إلا الأتباع والأقاربُ، وقوله: (كما صليت على آل إبراهيم) آل إبراهيم هنا هم الأنبياء، والمطلوبُ من الله -سبحانه- أن يصلي على رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما صلّى على جميع الأنبياء من ذرية إبراهيم لا إبراهيم وحده، كما هو مصرح به في بعض الألفاظ من قوله على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وأما قوله تعالى:سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(130) سورة الصافات فهذه فيها قراءتان: إحداهما: إلياسين بوزن إسماعيل، وفيه وجهان: أحدهما: أنه اسم ثانٍ للنبي إلياس، وإلياسين كميكال وميكائيل. والوجه الثاني: أنه جمع فيه وجهان: أحدهما: أنه جمع إلياس، وأصله إلياسيين، بيائين كعبرانيين، ثم خففت إحدى اليائين فقيل إلياسين، والمراد أتباعه، كما حكى سيبويه الأشعرون ومثله الأعجمون. والثاني: أنه جمع إلياس محذوف الياء. والقراءة الثانية: (سلام على آل ياسين) وفيه أوجه: أحدها: أن ياسين اسم لأبيه فأضيف إليه الآل، كما يُقال آل إبراهيم. والثاني: أن آل ياسين هو إلياسُ نفسه، فيكون آل مضافة إلى يس، والمراد بالآل يس نفسه، كما ذكر الأولون. والثالث: أنه على حذف ياء النسب، فيقال: يس، وأصله ياسين، كما تقدم، وآلهم أتباعهم على دينهم. والرابع: أن يس هو القرآن، وآله هم أهل القرآن. والخامس: أنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وآله أقاربه وأتباعه كما سيأتي. وهذه الأقوال كلها ضعيفة، والذي حمل قائلها عليها استشكالهم إضافة (آل) إلى (يس) واسمه إلياس وإلياسين، ورأوها في المصحف مفصولة، وقد قرأها بعضُ القراء: (آل ياسين) فقال طائفة منهم: له أسماء يس، وإلياسين، وإلياس، وقالت طائفة: (يس اسم لغيره، ثم اختلفوا فقال الكلبي: يس محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقالت طائفة: هو القرآن، وهذا كله تعسف ظاهر لا حاجة إليه، والصَّواب -والله أعلم- في ذلك أن أصل الكلمة آل إلياسين،كآل إبراهيم، فحذفت الألف واللام من أوله لاجتماع الأمثال، ودلالة الاسم على موضع المحذوف، وهذا كثير في كلامهم، إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النطق بها كلها، فحذفوا منها ما لا إلباس في حذفه، وإن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال، ولهذا لا يحذفون النون من (إني، وأني، وكأني ولكني) ولا يحذفونها من (النيء) ولما كانت اللام في (لعل) شبيهة بالنون حذفوا النون معها، ولا سيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي وتغييرها له، فيقولون مرة: (إلياسين)، ومرة (إلياس) ومرة (ياسين) وربما قالوا: (ياس) ويكون على إحدى القراءتين قد وقع المسلّم عليه وعلى القراءة الأخرى على آله، وعلى هذا ففصل النزاع بين أصحاب القولين في الآل: إن الآل إن أفرد دخل فيه المضاف إليه كقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46) سورة غافر. ولا ريب في دخوله في آله هنا، وقوله:وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ(130) سورة الأعراف. وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)(5). ولا ريب في دخول أبي أوفى نفسه في ذلك، وقوله: (اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) وإبراهيم هنا داخل في آله، ولعل هذا مراد من قال: آل الرجل نفسه. وأما إن ذُكر الرجل، ثم ذُكر آله لم يدخل فيهم، ففرق بين اللفظ المجرد والمقرون، فإذا قلت: أعط لزيد وآل زيد، لم يكن زيد هنا داخلاً في آله وإذا قلت: أعطه لآل زيد تناول زيداً وآله، وهذا له نظائر كثيرة، وهي أن اللفظ تختلف دلالته بالتجريد والاقتران، كالفقير والمسكين، هما صنفان إذا قُرن بينهما، وصنف واحد إذا أُفْرد كل منهما، ولهذا كانا في الزكاة صنفين، وفي الكفارات صنف واحد، وكالإيمان والإسلام، والبر والتقوى، والفحشاء والمنكر، والفُسُوق والعصيان، ونظائر ذلك كثيرة ولا سيما في القرآن. الاختلاف في آل النبي-صلى الله عليه وسلم- على أربعة أقوال: - هم الذين حُرِّمت عليهم الصدقة، وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء. أحدها: بنو هاشم فقط وهذا قول أبي حنيفة ومالك والهادوية ورواية عن أحمد. ثانيها: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، وهذا اختيار الشافعي وجماعة من العلماء. ثالثها: أنهم بنو هاشم، ومن فوقهم إلى غالب، فيدخل فيهم بنو المطلب، وبنو أمية وبنو نوفل، ومن فوقهم إلى بني غالب، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك، حكاه صاحبُ "الجواهر" عنه، وحكاه اللخمي في "التبصرة" عن أصبغ، ولم يحكه عن أشهب، وهذا القول في الآل أعني أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة هو منصوص الشافعي، وأحمد والأكثرين، وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي. - هم ذريته وأزواجه خاصّة، حكاه ابن عبد البر في "التمهيد" قال في شرح حديث أبي حميد الساعدي: استدلَّ قوم بهذا الحديث على أن آل محمد هم أزواجه وذريته خاصةً، لقوله في حديث مالك عن نعيم المجُمَّر، وفي غير ما حديث: (اللهم صلِّ على محمَّد وأزواجه وذُريته)(6)، وقوله-تعالى-:وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ (التوبة:103) قالوا: فهذا تفسير ذلك الحديث، ويبين أن آل محمد هم أزواجه وذريته، قالوا: فجائز أن يقول الرجل لكل من كان من أزواج محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن ذريته صلى الله عليك، إذا واجهه، وصلى الله عليه إذ غاب عنه، ولا يجوز ذلك في غيرهم، قالوا: والآل والأهل سواء، وآل الرجل وأهله سواء، وهم الأزواج والذريَّة بدليل هذا الحديث. - هم أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، وأقدمُ من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله، ذكره البيهقي عنه، ورواه عن سفيان الثوري وغيره، واختاره بعضُ أصحاب الشافعيّ، حكاه عنه أبو الطيب الطبري في تعليقه، ورجّحه الشيخ محيي الدين النووي في "شرح مسلم" واختاره الأزهري. - هم الأتقياء من أمته –صلى الله عليه وسلم- وهذا ذهب إليه جماعة من أهل العلم. - ذكر حجج هذه الأقوال، وتبيين ما فيها من الصحيح والضعيف: دليل القول الأول: وهو أن الآل من تحرمُ عليهم الصدقة -على ما فيهم من الاختلاف- فحجته من وجوه: ألأول: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُؤتى بالنخل عند صرامه، فيجيء هذا بتمرةٍ وهذا بتمرةٍ حتى يصير عنده كوم من تمر، فجعلَ الحسنُ والحسينُ يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخرجها من فيه، فقال: (أما علمت أنّ آل محمّد لا يأكلون الصّدقة)(7) رواه مسلم، وقال: (إنّا لا يحلُّ لنا الصّدقة). الثاني: ما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: قام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً خطيباً فينا بماء يُدعى خمّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ، ثم قال: (أما بعدُ: ألا أيُّها الناسُ إنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسولُ ربي عزَّ وجلَّ، و إني تارك فيكم ثقلين: أولُّهما كتاب الله عز وجل فيه الهُدى والنور فخذو بكتاب الله واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغب فيه، وقال: (وأهلُ بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)، فقال له حصينُ بن سبرة: ومن أهلُ بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكنْ أهلُ بيته من حُرم الصدقة بعده. قال: ومَنْ هم؟ قال: هم آلُ عليّ، وآل عقيل، وآل جعفر، وآلُ عبّاس قال: أكلُّ هؤلاء حُرِمَ الصدقة؟ قال: نعم).(8) وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنّ الصدقة لا تحلُّ لآل محمّد)(9) وهو ثابت. الثالث: ما في الصحيحين: من حديث الزهري عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها-: أن فاطمة -رضي الله عنها- أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي -صلى الله عليه وسلم- مما أفاء الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: إنّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا نُورث، ما تركنا صدقة)(10)، إنما يأكل آل محمد من هذا المال –يعني مال الله- ليس لهم أن يزيدوا على المأكل. فآله -صلى الله عليه وسلم- لهم خواص: منها: حرمان الصدقة، ومنها: أنهم لا يرثونه، ومنها: استحقاقهم خمس الخمس، ومنها: اختصاصهم بالصلاة عليهم. وقد ثبت أن تحريم الصدقة واستحقاق خمس الخمس وعدم توريثهم مختص ببعضِ أقاربه -صلى الله عليه وسلم-، فكذلك الصّلاة على آله. الرابع: ما رواه مسلم: من حديث ابن شهاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي، أن عبد المطلب بن ربيعة أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث قال لعبد المطلب بن ربيعة، وللفضل بن العباس -رضي الله عنهم-: ائتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقولا له استعملْنا يا رسول الله على الصَّدقات –فذكر الحديث- وفيه: فقال لنا: (إنّ هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنّها لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمَّد)(11). الخامس: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عروة بن الزبير، عن عائشة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بكبشٍ أقرن، يطأ في سوادٍ –فذكر الحديث- وقال فيه: فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الكبش فأضجَعه، ثم ذبحه ثم قال: (بسم الله اللهم تقبَّل من محمَّد، ومن آل محمّد، ومن أمّة محمد، ثم ضحى به)(12) هكذا رواه مسلم بتمامه، وحقيقة العطف المغايرة، وأمَّته -صلى الله عليه وسلم- أعمُّ من آله. قال أصحاب هذا القول: وتفسير الآل بكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى من تفسيره بكلام غيره.
دليل القول الثاني: أنهم ذريته وأزواجه خاصة، والدليل ما تقدَّم من احتجاج ابن عبد البر له، من حديث أبي حُميد: (اللهم صلِّ على محمّد وأزواجه وذريته) وفي غيره من الأحاديث: (اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آلِ محمّد) وهذا غايته أن يكون الأول منهما قد فسَّره اللفظ الآخر. واحتجوا أيضاً بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً)(13). ومعلوم أن هذه الدعوة المتسجابة لم تنل كلَّ بني هاشم ولا بني عبد المطلب؛ لأنه كان فيهم الأغنياءُ، وأصحاب الجِدَةِ وإلى الآن، وأما أزواجه وذريته -صلى الله عليه وسلم- فكان رزقهم قوتاً، وما كان يحصل لأزواجه بعدُ من الأموال كنَّ يتصدقن به، ويجعلن رزقهن قوتاً. وقد جاء عائشةَ -رضي الله عنها- مالٌ عظيم فقسمته كله في قعدة واحدة، فقالت لها الجارية: لو خبيَّتِ لنا منه درهماً؛ نشتري به لحماً؟ فقالت لها: لو ذكرتني فعلت. واحتجوا أيضاً بحديث عائشة - رضي الله عنها-، قالت: ما شبعَ آلُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- من خبز مَأْدوُمٍ ثلاثة أيام حتى لحِقَ بالله عز وجل(14). قالوا: ومعلوم أن العبَّاس وأولاده وبني المطلب لم يدخلوا في لفظ عائشة ولا مرادها. قال هؤلاء: وإنما دخل الأزواج في الآل، وخصوصاً أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تشبيهاً كذلك بالسبب، لأن اتصالهنّ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- غير مرتفع وهن محرّمات على غيره في حياته وبعد مماته، وهنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة، فالسبب الذي لهن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قائم مقام النسب. وقد نصَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- عليهن، ولهذا كان القول الصحيح -وهو منصوص الإمام أحمد رحمه الله-: أن الصّدقة تحرم عليهن؛ لأنها أوساخ الناس، وقد صان الله سبحانه ذلك الجناب الرفيع وآله من كل أوساخ بني آدم، ويا لله لعجب كيف يدخُل أزواجه في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم اجعلْ رزق آل محمد قوتاً) وقوله في الأضحية: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد)، وفي قول عائشة -رضي الله عنها-: ما شبع آل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خبز برّ. وفي قول المصلَّي: (اللهم صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد)) ولا يدخلن في قوله: (إن الصدقة لا تحلُّ لمحمَّد ولا لآل محمَّد)، مع كونها من أوساخ الناس، فأزواجُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بالصيانة عنها والبعد منها. فإن قيل: لو كانت الصدقة حراماً عليهن لحرمت على مواليهن، كما أنها لما حرمت على بني هاشم حرمت على مواليهم، وقد ثبت في الصحيح أن بريرة تُصدِّق عليها بلحم فأكلَتْهُ، ولم يُحرِّمه النبي -صلى الله عليه وسلم-.(15) وهي مولاة لعائشة –رضي الله عنها- . قيل: هذه هي شبهة من أباحها لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجوابها: أن تحريم الصّدقة على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بطريق الأصالة، وإنما هو تبعٌ لتحريمها عليه -صلى الله عليه وسلم-، وإلا فالصّدقة حلال لهنَّ قبل اتصالهن به، فهن فرعٌ في هذا التحريم، والتحريمُ على المولى فرعُ التحريم على سيّده، فلما كان التحريم على بني هاشم أصلاً استتبع ذلك مواليهم، ولما كان التحريم على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تبعاً، لم يقوَ ذلك على استتباع مواليهن؛ لأنه فرعٌ عن فرعٍ. قالوا: وقد قال الله -تعالى-: يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا . وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا. يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا(30-34) سورة الأحزاب. فدخلن في أهل البيت؛ لأن هذا الخطاب كله في سياق ذكرهن، فلا يجوز إخراجهن من شيء، والله أعلم.
دليل القول الثالث: وهو أن آل النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته وأتباعه إلى يوم القيامة. فقد احتُج له بأن آل المعظم المتبوع هم أتباعه على دينه وأمره، قريبهم وبعيدهم. قالوا: واشتقاق هذه اللفظة تدلُّ عليه، فإنه من آل يؤول إذا رجع، ومرجع الأتباع إلى متبوعهم؛ لأنه إمامهم وموئلُهم، ولهذا كان قوله –تعالى-:إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ(34) سورة القمر: المراد به أتباعه وشيعته المؤمنون به من أقاربه وغيرهم. وقوله –تعالى-: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46) سورة غافر:المراد به أتباعه. واحتجوا أيضاً بأن واثلة بن الأسقع روى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا حسناً وحُسيناً، فأجلس كلَّ واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة -رضي الله عنها- من حجره وزوجها، ثم لفَّ عليهم ثوبه، ثم قال: (اللهم هؤلاء أهلي) قال واثلة: فقلتُ يا رسول الله، وأنا من أهلِك؟ فقال: (وأنت من أهلي)(16). رواه البيهقي بإسناد جيد. قالوا: ومعلوم أن واثلة بن الأسقع من بني ليث بن بكر بن عبد مناة، وإنما هو من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أدلة القول الرابع: أن آله الأتقياء من أمته، واحتجوا بما رواه الطبراني في معجمه: عن جعفر بن إلياس بن صدقة، حدثنا نعيم بن حمَّاد حدثنا نوح بن أبي مريم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أنس بن مالك قال: سُئل رسولُ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ آلُ محمد؟ فقال: (كلُّ تقي)(17)، وتلا النبي -صلى الله عليه وسلم-:إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ(34) سورة الأنفال. قال الطبراني: لم يروه عن يحيى إلا نوح، تفرد به نعيم. وقد رواه البيهقي(18). من حديث عبد الله بن أحمد بن يونس قال: حدثنا نافع أبو هرمز عن أنس فذكره. ونوح هذا ونافع أبو هرمز، لا يحتج بهما أحدٌ من أهل العلم، وقد رُميا بالكذب. واحتُج لهذا القول أيضاً بأن الله -عز وجل- قال لنوحٍ عن ابنه: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)(46) سورة هود، فأخرجه بشركه أن يكون من أهله، فعُلم أن آلَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم أتباعه. وأجاب عنه الشافعيُّ -رحمه الله- بجوابٍ جيد، وهو أن المراد أنه ليس من أهلك الذين أمرناك بحملهم، ووعدناك نجاتهم؛ لأن الله –سبحانه- قال له قبل ذلك: احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ(40) سورة هود، فليس ابنه من أهله الذين ضمن نجاتهم. قال ابن القيم –رحمه الله- : ويدل على صحة هذا أن سياق الآية يدل على أن المؤمنين قسم غير أهله الذين هم أهله؛ لأنه قال –سبحانه-: احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ(40) سورة هود، فمن آمن معطوف على المفعول بالحمل، وهم الأهل والاثنان من كل زوجين. واحتجوا أيضاً بحديث واثلة بن الأسقع المتقدم، قالوا: وتخصيص واثلة بذلك أقرب من تعميم الأمة به، وكأنه جعل في حكم الأهل تشبيهاً بمن يستحق هذا الاسم.
الترجيح بين الأقوال في حقيقة مَن هم آل النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال الإمام ابن القيم –رحمه الله-: فهذا ما احتج به أصحاب كل قول من هذه الأقوال. والصحيح هو القول الأول، ويليه القول الثاني. وأما الثالث والرابع فضعيفان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد رفع الشبهة بقوله: ( إن الصدقة لا تحلُّ لآل محمّد) وقوله: (إنما يأكل آلُ محمدٍ من هذا المال) وقوله: (اللهم اجعل رزقَ آلِ محمد قوتاً) وهذا لا يجوز أن يُرادَ به عموم الأمة قطعاً. فأولى ما حُمل عليه الآل في الصلاة: الآل المذكورون في سائر ألفاظه، ولا يجوزُ العدولُ عن ذلك، وأما تنصيصه على الأزواج والذرية، فلا يدل على اختصاص الآل بهم، بل هو حجَّة على عدم الاختصاص بهم، لما روى أبو داود من حديث نعيم المجمِّر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-:(اللَّهم صلَّ على محمَّد النبيِّ وأزواجه أمهات المؤمنين، وذُريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم)(19)، فجمع بين الأزواج والذرية والأهل، وإنما نصَّ عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقون بالدخول في الآل، وأنهم ليسوا بخارجين منه، بل هم أحقُّ من دخل فيه، وهذا كنظائره من عطف الخاص على العام، وعكسه؛ تنبيهاً على شرفه وتخصيصاً له بالذكر من بين النوع؛ لأنه من أحق أفراد النوع بالدخول فيه، وهنا للناس طريقان: أحدهما: أن ذكر الخاص قبل العام أو بعده قرينة تدلَّ على أن المراد بالعام ما عداه. والطريق الثاني: أن الخاص ذُكر مرتين مرة بخصوصه، ومرة بشمول الاسم العام له تنبيهاً على مزيد شرفه، وهو كقوله تعالى:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ...)(7) سورة الأحزاب، وقوله تعالى: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ)(98) سورة البقرة. وأيضاً فإن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- حقٌّ له ولآله دون سائر الأمة، ولهذا تجبُ عليه وعلى آله عند الشافعي -رحمه الله- وإن كان عندهم في الآل اختلاف، ومن لم يُوجبها فلا ريب أنه يستحبُّها عليه وعلى آله، فمن قال: إن آله في الصَّلاة هم كالأمة، فقد أبعد غاية الإبعاد. وأيضاً فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرع في التشهد السلام والصلاة، فشرع في السلام تسليم المصلي على الرسول -صلى الله عليه وسلم– أولاً، وعلى نفسه ثانياً، وعلى سائر عباد الله الصالحين ثالثاً، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (فإذا قلتُم ذلك فقد سلَّمتم على كلِّ عبدٍ لله صالح في السماء والأرض)(20)، وأما الصلاة فلم يشرعها إلا عليه وعلى آله فقط، فدلَّ على أن آله هم أهلُه وأقاربه. وأما من قال إنهم الأتقياء من أمته، فهؤلاء هم أولياؤه، فمن كان منهم من أقربائه فهو من أوليائه، ومن لم يكن من أقربائه، فهم من أوليائه، لا من آله. فقد يكون الرجل من آله وأوليائه،كأهل بيته والمؤمنين به من أقاربه، ولا يكون من آله ولا من أوليائه، وقد يكون من أوليائه، وإن لم يكن من آله، كخلفائه في أمته الداعين إلى سنته، الذَّابين عنه، الناصرين لدينه، وإن لم يكن من أقربائه. وثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ألا إنَّ آل أبي فُلان ليسوا لي بأولياء، إن أوليائي المتقون أين كانوا ومن كانوا)(21). والمقصود أن المتقين أولياء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأولياؤه هم أحبُّ إليه من آله. قال الله –تعالى-:وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ(4) سورة التحريم، وسُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أيّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: (عائشة)، قيل: من الرَّجال؟ قال: (أبوها)(22). وذلك أن المتقين هم أولياء الله كما قال- تعالى-: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ(62-63)سورة يونس. وأولياء الله سبحانه وتعالى أولياء لرسوله -صلى الله عليه وسلم-. وأما من زعم أن الآل هم الأتباع، فيُقال : لا ريب أن الأتباع يُطلق عليهم لفظ (آل) في بعض المواضع بقرينة، ولا يلزم من ذلك أنه حيث وقع لفظ (الآل) يُراد به الأتباع لما ذكر من النصوص. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
راجع : " جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" للإمام ابن القيم المتوفى سنة 751هـ ( 159-177) مكتبة دار التراث. ط/ الثانية 1413هـ.,و" القول البديع " للإمام الحافظ أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902هـ رحم الله الجميع . 1- البخاري: (3/ 414) رقم (1491) كتاب الزكاة: باب ما يذكر في الصدقة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ورقم (3/ 410)(1485). باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل، ومسلم:(2/751) رقم (1069) في الزكاة: باب تحريم الزكاة على الرسول وآله. 2- نقلاً عن كتاب القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع (121) بتصرف يسير. مكتبة المؤيد. 3 - البخاري– الفتح: (7- 513 رقم: 4166) كتاب المغازي باب غزوة الحديبية). 4 - البخاري – الفتح: (11/156)كتاب الدعوات باب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- رقم: (6357). 5- البخاري. تقدم تخريجه. 6 - البخاري– الفتح: (11/173) كتاب الدعوات باب هل يصلى على غير النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ رقم: (6360). 7- البخاري (1485) ومسلم (1069).تقدم تخريج الحديث. 8- مسلم(4/ 1873) رقم (2408) كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل على بن أبي طالب- - رضي الله عنه -- وقال ابن الأثير: سمّى النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن العزيز وأهل بيته الثقلين؛ لأن الأخذ بهما والعمل بما يجب لهما ثقيل، وقيل: العرب تقول لكل خطير نفيس: ثقل، فجعلها ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما). 9 - ذكره ابن القيم في" جلاء الأفهام " ( 167) ويشهد له الحديث الذي في صحيح أبي داود ( 2584) والنسائي 2446. تصحيح الألباني 10- مسلم(3/ 1381) رقم 1759 كتاب الجهاد والسير – باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ( لا نورث ما تركنا فهو صدقة، وأبو داود (2792). 11 - صحيح مسلم: (2/754 برقم: 1072) كتاب الزكاة باب ترك استعمال آل النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصدقة.
مقالات في نفس القسم |