البحث
تفويضُه صلى الله عليه وسلم الصحابي بالجواب عما سُئل عنه ليُدرِّبه
تفويضُه صلى الله عليه وسلم الصحابي بالجواب عما سُئل عنه ليُدرِّبه
وكان صلى الله عليه وسلم يُفوِّض أحَدِ أصحابِه الجوابَ عن السؤالِ الذي رُفع إليه ليُدرِّبه على الإجابة في أمور العلم ، ومن ذلك :
ما رواه البخاري، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه1، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ((كان أبو هريرة يحدث أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفَهُ من أُحُد ، فقال :
إني رأيتُ الليلة في المنام ظُلّةً يَنطُفُ منها السَّمنُ والعَسَلُ2، ورأيتُ الناس يتكفَّفون منها بأيديهم3، فالمستكثِرُ والمستقِلُّ ، ورأيتُ سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض4، رأيتُك يا رسول الله ، أخذتَ به فعلوتَ به ، ثم أخَذَ به رجل آخر من بعدك فعَلا به ، ثم أخَذَ به رجل آخر بعده فعَلا به ، ثم أخَذ به رجل آخر بعده فانقطع به ، ثم وُصِلَ له فعَلا به .
قال أبو بكر : يا رسول الله بأبي وأُمّي أنتَ ، واللهِ لَتَدَعَنّي فلأُعَبِّرَنَّها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعْبُرْها . قال أبو بكر : أما الظُّلّةُ فظُلَّةُ الإسلام ، وأما الذي يَنِطُفُ من السمن والعسل فهو القرآن حلاوتُه ولينُه . وأما ما يتكفف الناسُ من ذلك فالمستكثِرُ من القرآن والمستقِلُّ منه . وأما السببُ الواصلُ من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه ، تأخُذُ به فيُعليك الله ، ثم يأخُذُ به بعدك رجلٌ فيَعْلو به ، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ، ثم يأخُذُ به رجل آخر فينقطع ، ثم يوصلَ له فيعلو به .
فأخبِرني يا رسول الله بأبي أنت ، أصبتُ أم أخطأتُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً5، فقال : فوالله يا رسول الله ، لَتُحدِّثني ما الذي أخطأتُ6؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تُقسِمْ يا أبا بكر)) .
ومن باب التدريب والتمرين أيضاً أمرُه صلى الله عليه وسلم لبعضِ أصحابِه بأن يَقضي بين يديه ، فيما رُفع إليه من الخصومات .
فقد روى أحمد في ((مسنده)) ، والدارقطني في ((سننه))7، واللفظُ له ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال : ((جاء رجلان يَختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَمْرو بنِ العاص : اقضِ بينهما ، قال : وأنت ها هنا يا رسولَ الله؟
قال : نعم ، قال : على ما أقضي؟ قال : إن اجتهدتَ فأصبتَ فلك عشرةُ أُجورٍ ، وإن اجتهدتَ فأخطأتَ فلك أجر واحد)) .
وروى أحمد والدارقطني أيضاً1، عن عُقبة بن عامر الجُهَني رضي الله عنه قال : ((جاء خَصْمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَختصمان ، فقال لي : قُمْ يا عُقبةُ اقضِ بينهما ، قلتُ : يا رسول الله ، أنت أولى بذلك مني ، قال : وإن كان ، اقْضِ بينهما ، فإن اجتهدتَ فأصبتَ فلك عشرةُ أُجورٍ ، وإن اجتهدتَ فأخطأتَ فلك أجر واحد)) .
وروى ابن ماجه والدارقطني2، واللفظُ له ، عن جارية بن ظَفَر الحَنَفي اليَمامي رضي الله عنه ، قال : ((إنَّ داراً كانت بين أخوين ، فحَظَرا في وسطها حِظاراً ، ثم هَلَكا وتَرَك كلُّ واحد منهما عَقِباً ، فادَّعى كلُّ واحدٍ منهما أن الحِظارَ له من دون صاحبه ، فاختَصَم عَقِباهُما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسَلَ حُذيفة بنَ اليمان ، فقَضى بينهما ، فقَضى بالحِظار لمن وَجَد معاقِدَ القُمُط تليه3، ثم رجع فأخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أصبتَ وأحسنتَ)) .
----------------------------------------
1 ـ البخاري 12 :345 و 379 في كتاب التعبير (باب رؤيا الليل) و(باب من لم ير الرؤيا لأول عابرٍ إذا لم يصب) ، ومسلم 15 :28 في كتاب الرؤيا (باب في تأويل الرُّؤيا) ، وأبو داود 4 :288 في كتاب السنة (باب في الخلفاء) ، والترمذي 3 :252 في آخر كتاب الرؤيا ، وابن ماجه 2 :1289 في كتاب تعبير الرؤيا (باب تعبير الرؤيا) ، واللفظُ المذكور هنا مأخوذ من مجموع رواياتهم .
2 ـ الظُلة : السحابة التي لها ظِل ، وكلُّ ما أظَلَّ من سَقيفة ونحوها ، ويَنطِفُ بضم الطاء وكسرها أي يَقْطُرُ قليلاً قليلاً .
3 ـ أي يأخذون بأكفّهم .
4 ـ السَّبب : الحَبْل ، والواصل بمعنى الموصول .
5 ـ قال الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)) 15 :19 عند هذا الحديث الشريف : ((اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً) ، فقال ابن قتيبة وآخرون : معناه أصبتَ في بيان تفسيرها ، وصادفتَ حقيقة تأويلها ، واخطأتَ في مبادرتك بتفسيرها من غير أن آمرك به .
وقال آخرون : هذا الذي قاله ابن قتيبة وموافقوه فاسد ، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أذِنَ له في ذلك ، وقال : اعْبُرها ، وإنما أخطأ في تركه تفسير بعضها فإن الرائي قال : رأيتُ ظلة تنطف السمن والعسل ، ففسره الصديق رضي الله عنه بالقرآن حلاوته ولينه. وهذا إنما هو تفسيرُ العسل ، وتَرَك تفسير السمن وتفسيرُهُ السُّنّة ، فكان حقه أن يقول : القرىن والسنة . وإلى هذا أشار الطحاوي .
وقال آخرون : الخطأ وقع في ـ إغفال ـ خَلْع عثمان ، لأنه ذُكِرَ في المنام أنه أَخَذ بالسبب فانقطع به ، وذلك يدل على انخلاعه بنفسه ، وفسَّره الصديق بأنه يأخذ به رجل فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به ، وعثمان قد خُلع قهراً وقُتِل ، ووُلّي غيره ، فالصواب في تفسيره أن يحمل أنَّ وصْلَه على ولاية غيره من قومه .
وقال آخرون : ((الخطأ في سؤاله ليعبرها)) . وانظر ((فتح الباري)) 12 :381 ـ 383 للازدياد والتمحيص إذا شئت .
وقال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) أيضاً 12 :384 وهو يذكر ما في الحديث من أمور التعليم : ((وفيه جواز إظهار العالم ما يُحسِنُ من العلم إذا خَلَصَتْ نيتُه وأمِنَ العُجب ـ وبهذا المعنى تَرجَم ابن حِبّان لهذا الحديث في ((صحيحه)) 1 :272 ـ ، وفيه كلامُ العالم بالعلم بحضرة من هو أعلمُ منه إذا أذِن له في ذلك صريحاً أو ما قام مَقامه ، ويؤخذ منه جوازُ مثله في الإفتاء والحكم ، وأن للتلميذ أن يُقسِمَ على معلمه أن يفيده الحكم .
6 ـ هذا الحديث دليل لما قاله العلماء أن إبرار القسم المأمور به ، إنما هو إذا لم تكن في الإبرار مفسدةٌ ، ولا مشقةٌ ظاهرة ، فإن كان لم يؤمر بالإبرار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَبر قسمَ أبي بكر لما رأى في إبراره من المفسدة .
7 ـ في ((مسند أحمد)) 2 :185 ، و((سنن الدارقطني)) 4 :203 ، وفي سند هذا الحديث ضعف . كما قاله الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 13 :319 في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (باب أجرُ الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) .
وفي متن هذا الحديث غرابة في ذكر (عشرة أجور) ، فإن الحديث هو حديثُ عمرو بن العاص ، والحديثُ الصحيح عنه : (إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) فهذا هو المحفوظ .
1 ـ في ((مسند أحمد)) 4 :205 ، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) 4 :195 : ((رجاله رجال الصحيح)) . و((سنن الدارقطني)) 4 :203 . قلت : وهذا الحديث فيه ضعف قاله الحافظ ابن حجر 13 :319 . قلتُ : وفيه غرابة في ذكر (عشرة أجور) .
2 ـ ابن ماجه 2 :785 في كتاب الأحكام (باب الرجلان يدعيان في خُصٍّ) ، والدارقطني 4 :229 في كتاب الأقضية والأحكام .
3 ـ الحِظار : ما يُحظَر به من السَّعَف والقَصَب ، وهو حائط الحظيرة .
والقُمُط جمعُ قِماط ، وهو في الأصل : خِرقةٌ عريضة يُشدُّ بها الصغير ، ثم أطلق على الحبل .
قال الفَيّومي في ((المصباح المنير)) ـ وهو يَشرَح هذه الجملة ـ : ((القُمُط : الشُّرُط جمعُ شريط ، وهو ما يُعمَلُ من لِيْف وخوصٍ . وقيل : القُمُط : الخُشُب التي تكون على ظاهر الخُصِّ أو باطنه ، يُشدُّ إليها حَرادي ـ أي الحُزُم التي يحزم بها ـ القَصَب أو رؤوسُه)) .