البحث
تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالسكوتِ والإقرارِ على ما حَدَث أمامه
تعليمُه صلى الله عليه وسلم بالسكوتِ والإقرارِ على ما حَدَث أمامه
هذا أحدُ أقسام السُّنّة ، ويُعبِّرُ عنه الأصوليّون والمحدِّثون بالتقرير ، فما حَدَث أمامَ النبي صلى الله عليه وسلم من مُسْلمٍ قولاً أو فعلاً ، وأقرَّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالسكوت عليه أو إظهارِ الرِّضا به فهو بيانٌ منه صلى الله عليه وسلم لإباحة ذلك القولِ أو الفعل ، وكثيرٌ من الأمور العلمية أُخِذ من النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الطريق .
وأكتفي هنا بذكر حديثين من هذا الباب :
روى البخاري6عن أبي جُحَيفة وَهْبِ بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : ((آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين سَلْمان وأبي الدَّرْداء1، فزار سلمانُ أبا الدرداء ، فرأى أُمَّ الدرداء مُتَبَذِّلَةً2، فقال لها : ما شأنُكِ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا3. فجاء أبو الدرداء فصَنَع له طعاماً ، فقال لسلمان : كُلْ فإني صائم ، قال : ما أنا بآكلٍ حتى تأكل ، فأَكَل . فلمّا كان الليل ذهَبَ أبو الدرداء يَقوم ، فقال : نَمْ ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَمْ ، فلما كان آخِرُ الليلِ قال سلمان : قُمْ الآن ، قال : فصَلَّيا ، فقال له سلمان : إنَّ لِرَبِّك عليك حقّاً ، ولِنفْسِك عليك حقّاً ، ولأهلِك عليك حقّاً4، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حَقَّه .فأتى ـ أبو الدرداء ـ النبي صلى الله عليه وسم فذَكَر ذلك له5، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صَدَق سلمان))6.
وروى أبو داود7عن عمرو بن العاص قال : ((احتلمتُ في ليلةٍ باردة في غزوةِ ذات السَّلاسِل8، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أَهلِك ، فتيمَّمتُ ثم صلَّيتُ بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا عمرو ، صلَّيتَ بأصحابك وأنت جُنُب؟ فأخبرتُه بالذي منعني من الاغتسال ، وقلت : إني سمعتُ الله يقول : (ولا تَقتُلوا أنفسَكم إن الله كان بكم رحيماً) ، فضَحِك رسولُ الله صلى الله عليه وسم ولم يقل شيئاً))9.
--------------------------
6 ـ 4 :182 في كتاب الصوم (باب من أقسم على أخيه ليُفطر في التطوع ولم ير عليه قضاءً ...) ، و10 :442 في كتاب الأدب (باب صنع الطعام والتكلف للضيف) .
1 ـ قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) 4 :182 ((ذكَرَ أصحابُ المغازي أن المؤاخاة بين الصحابة وقعَتْ مَرَّتين ، الأولى قبلَ الهجرة بين المهاجرين خاصَّةً ، على المُواساة والمُناصرة ، فكان من ذلك أُخوَّةُ زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب .
ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بن الهاجرين والأنصار ، بعدَ أن هاجَرَ ، وذلك بعدَ قدومِهِ المدينة ، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف : لما قَدِمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبين سَعْد بن الرَّبيع)) .
2 ـ أي لابسةً الثياب الخَلَق البالية ، وتاركةً لِلُبس الثياب المعتادة المستحسنة .
3 ـ تعني أنه عزوف عن النساء ، منصرِفٌ إلى العبادة كلَّ الانصراف .
4 ـ وزاد في رواية الترمذي : ((ولِضيفِكَ عليك حقّاً)) . وزاد في رواية الدارقطني : ((فصُمْ وأَفطِرْ وصلِّ ونَمْ ، وأْتِ أهلَك)) .
5 ـ في رواية الترمذي : ((فأتَيا)) بالتثنية ، وفي رواية الدارقطني : ((ثم خَرجا إلى الصلاة ، فدَنَا أبو الدرداء ليُخبِر النبي صلى الله عليه وسلم بالذي قال له سلمان ...)) .
6 ـ أي في جميع ما ذكره . وفي إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لسلمان مَنْقَبةٌ عظيمةٌ ظاهرة له رضي الله عنه .
وفي رواية ابن سعد : ((قال : لقد أُشْبِعَ سلمانُ عِلماً)) .
7 ـ 1 :141 في كتاب التيمم (باب إذا خاف الجنبُ البردَ) .
8 ـ اسمُ ماء بأرض جُذام ، وهي وراء وادي القُرى ، بينها وبين المدينة عشرةُ أيام ، وكانت تلك الغزوة في جُمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة .
9 ـ في تبسُّمه صلى الله عليه وسلم دليلُ على جواز التيمم عند شدةِ البرد ، لأن تبسُّمه يُعدُّ إقراراً منه صلى الله عليه وسلم ، وهو لا يُقرُّ على باطلٍ ، والتبسُّم والاستبشارُ منه صلى الله عليه وسلم أقوى دلالةً على الجواز من السكوت .