البحث
تمهيده صلى الله عليه وسلم التمهيدَ اللطيف عند تعليم ما قد يُستَحيا منه
تمهيده صلى الله عليه وسلم التمهيدَ اللطيف عند تعليم ما قد يُستَحيا منه
وكان صلى الله عليه وسلم تارةً يُمهِّدُ التمهيدَ اللطيفَ الرقيقَ ، إذا شاء أن يُعلِّم أصحابَه ما قد يُستَحيا من التصريح به :
روى مسلم مختصراً وأبو داود والنسائي وابن ماجه تامّاً ـ واللفظ لابن ماجه2ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنما أنا لكم مثلُ الوالِدِ لولدِهِ أُعلِّمُكم ، إذا أتيتم الغائط3، فلا تستقبلوا القِبلة4،ولا تَستَدْبِروها5، وأمرَ بثلاثةِ أحجار6، ونهى عن الرَّوْث7، والرِّمّة8، ونهى أن يَستطيبَ الرجلُ بيمينه))9.
----------------------------
2 ـ مسلم 3 :153 ، أبو داود 1 :30 ، النسائي 1 :38 ، ابن ماجه 1 :114 في كتاب الطهارة (باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرِّمّة) .
3 ـ الغائط هنا على أصل معناه اللغوي ، وهو المكانُ المنخفِضُ من الفضاء والعراء ، وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة فيه ، بغيةَ السَّتْر بارتفاع ما حوله ، وذلك قبل أن تُتخَذَ المراحيضُ في المنازل والبيوت . ثم أطلِق لفظ (الغائط) على الخارج نفسه من الإنسان ، تجوُّزاً ، وهذا غيرُ مراد هنا .
4 ـ المراد بالقِبلة : الكعبةُ المعظمة . وأراد جهتها ، ولذلك عبَّر بلفظ (القِبلة) . والنهي يشمل قضاء الحاجة ببول أو غائط .
5 ـ أي لا تستدبروا الكعبة المعظمة عند قضاء الحاجة .
6 ـ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ من يستنجي بالحجر ، أن يستنجي بثلاثة أحجار ، لأن النَّقاء يحصل بها غالباً . والاستنجاءُ بالماء لمن يجده أفضل .
7 ـ الرَّوْث هو خُرءُ ذوات الحوافر كالبقرة والفرس والغنمة . والاستنجاءُ به إنما يتصوَّر عند يُبْسِه ، بدلاً من الحجر ، وإنما نهى عنه لأنه النجاسة بعينها .
8 ـ الرِّمّة : العَظْمُ البالي . والمراد هنا مطلق العظم .
9 ـ الاستطابة : الاستنجاء . يقال : استطاب الرجلُ يستطيبُ فهو مستطيب إذا استنجى ، ومعنى الطيب هنا الطهارة . وذكرُ (الرَّجُل) في قول أبي هريرة رضي الله عنه : (ونهى أن يستطيب الرجل بيمينه) لفظ اتفاقي ، إذ المرأة مثله . وهذا النهي إنما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم رعايةً منه للنظام العام الذي رَسَمه الإسلامُ في أعمال اليدين : فكلُّ عمل رفيع يكون باليد اليمنى ، وكلّث عمل وضيع يكون باليد اليسرى .
وفي هذا الحديث الشريف من الأمور التعليمية : تواضعُ المعلِّم الأول صلى الله عليه وسلم ، وكمالُ شفقته على المتعلمين ، وجميلُ تلطفه بهم لتعليمهم ما يُستحيا منه ، وتعليمُه لهم التزامَ النظام في تصرفاتهم وشؤونهم وأمور نظافتهم .
ولفظُ الحديث من رواية أبي داود هكذا : ((إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ، فإذا أتى أحدُكم الغائط ، فلا يستقبِل القِبلة ، ولا يستدبِرْها ، ولا يستطِبْ بيمينه . وكان يَأمُرُ بثلاثة أحجار ، وينهى عن الرَّوث والرُّمّة)) .
وقد أجاد العلاّمة المُناوي في ((فيض القدير شرح الجامع الصغير)) 2 :570 ، في شرح هذا الحديث الشريف أيَّما إجادة ، فأنا أنقل لك كلامه بطوله لنفاسته واحتوائه المعاني الرائعة ، فقال رحمه الله تعالى ما خلاصته :
((قوله صلى الله عليه وسلم : إنما أنا لكم ، أي لأجلكم ما أنا لكم إلاّ مثلُ الوالد وبمنزلةِ الوالد ، في الشفقة والحُنُوّ ، لا في الرُّتْبة والعُلُوّ ، وفي تعليم ما لا بُدَّ منه ، فكما يُعلِّمُ الأبُ ولدَه الأدب ، فأنا أُعلِّمُكم ما لكم وما عليكم . وأبو الإفادة أقوى من أبي الوِلادة ، وهو الذي أنقَذَنا الله به من ظلمة الجهل ، إلى نور الإيمان . وقدَّم صلى الله عليه وسلم هذه المقدِّمة أمام المقصود :
إعلاماً بانه يجب عليه تعليمُهم أمرض دينهم ، كما يَلزم الوالد تعليمُ ولده ما يَحتاج إليها مطلقاً ، ولا يُبالي بما يُستحيا من ذكره ، فهذا تمهيد منه صلى الله عليه وسلم لما بيَّنه لهم من آداب قضاءِ الحاجة ، وهي من الأمور التي يُستحيى من ذكرها ، ولا سيما في مجالس العظماء .
وإيناساً منه صلى الله عليه وسلم للمخاطَبين ، لئلا يحتشموا عن السؤال عما يَعرِضُ لهم ، مما يُستحيى منه .
وبَسْطاً للعُذْرِ عن التصريح بقوله : (فإذا أتى أحدُكم الغائط) أي محلِّ قضاء الحاجة ، (فلا يَستقبلْ القِبلة) بفَرْجِه والخارج منه ، (ولا يَستدبِرْها) ببول ولا غائط وجوباً في الصحراء وندباً في غيرها ، (ولا يستطب بيمينه) أي لا يستنجِ بها بغَسْلٍ أو مَسْح ، فيُكرَهُ ذلك تنزيهاً ، وقيل تحريماً . وسُمّي هذا الفعلُ بالاستطابة لِطيب الموضع بطهارته من النجاسة ، أو لطيب نفس المستطيب بإزالة النجاسة .
وقد أفاد الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الأُمّةِ كالأب ، وكذا أزواجُه أُمَّهاتُ المؤمنين ، لأنَّ منه ومن أزواجه تعلَّمَ الذكورُ والإناثُ معانيَ الدين كلِّه ، ولم يتولَّد خيرٌ إلاّ منه ومنهن ، فبِرُّه وبِرُّهنَّ أوجَبُ من كل واجب ، وعقوقُه وعقوقُهن أهلَك من كل مُهلِك .
قال ابن الحاج في كتابه ((المَدْخَل)) : أُمّةُ النبي صلى الله عليه وسلم في الحقيقة أولادُه ، لأنه السببُ للإنعام عليهم بالحياةِ السَّرْمَدِيّة ، والخلود في دار النعيم فحقُّهُ أعظَمُ من حقوق الوالدين . قال عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه : ((ابدَأْ بنفسِك ثم بمن تَعول)) ، فأفادَهُ تقديمَ نفسه على غيره والله سبحانه قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه على نفس كل مؤمن فقال : (النبيُّ أولى بالمؤمنين من =
= أنفسهم) ، ومعناه إذا تعارَض للمؤمن حقّان حقٌّ لنفسه وحقٌّ لنبيه ، فآكدُهما وأوجبُهما حقُّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يَجعلُ حقَّ نفسه تبعاً للحق الأوَّل .
وإذا تأمَّلتَ الأمرَ في الشاهد أي الواقع ، وجدتَ نفع المصطفى صلى الله عليه وسلم أعظمَ من نفع الآباء والأمَّهات ، وجميعِ الخلق ، فإنه أنقَذَك وأنقذ آباءك من النار ، وغاية أمرِ أبويك أنهما أوجداك في الحِسّ ، فكانا سبباً لإخراجك إلى دار التكليف والبلاء والمِحَن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبباً لنجاتك ودخولك إلى دار التشريف والمِنَح ، فجزى الله عنا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهلُه)) . انتهى بزيادة يسيرة وتصرف يسير .
ومن أجلِ هذا المعنى العظيم الذي تقدَّم في كلام ابن الحاج رحمه الله تعالى ، قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في ((إحياء علوم الدين)) 1 :55 ، وهو يتحدَّثُ عن عِظَم مسؤولية المعلِّم نحو المتعلِّمين منه ، ولزومِ شفقتِه عليهم ـ في الوظيفة الأولى من وظائف المعلِّم ، في الباب الخامس من آداب المتعلم والمعلِّم ـ : ((ولذلك صار حقُّ المعلِّم أعظمَ من حق الوالدين ، فإن الوالد سبَبُ الوجود الحاضر والحياة الفانية ، والمعلِّم سبب الحياة الباقية ، ولولا المعلِّم لانساق ما حصل من جهة الوالدين إلى الهلاك الدائم ، وإنما المعلِّم هو المُفيدُ للحياة الأخروية الدائمة ، أعني معلِّمَ علوم الآخرة ، أو علوم الدنيا على قصد الآخرة ، لا على قصد الدنيا . فأما التعليمُ على قصد الدنيا ـ أي على قصد تحصيل حُطام الدنيا ، والتمكن في زينتها ، والتفاخر بها في الملابس والمآكل والمراكب ـ فهو هلاك وإهلاك ، نعوذ بالله منه)) . انتهى .
ومعذرةً من إطالتي هذه التعليقة ، فقد اقتضاني ذلك ما تضمَّنَتْه من نفائس العلم الرفيع ، أكرمني الله وإياك بالعلم والعمل والتقدير المستحقّ علينا مقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .