البحث
حياؤه صلى الله عليه وسلم
☼ وكيف لا يتصف صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم بالحياء، والحياء من أجلِّ مكارم الأخلاق؟!!
☼ كيف لا يتصف بذلك، والحياء من شعب الإيمان كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ» ، وهو خيرٌ كلُّه كما قال صلى الله عليه وسلم" «الحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أخرجه البخاري ومسلم، والحياء أبرز أخلاق دينه الذي جاء به؛ أليس هو القائل صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَإِنَّ خُلُقَ الإِسْلَامِ الحَيَاءُ» (أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني)؟!.
☼ وقد بلغ حياؤه صلى الله عليه وسلم الذروة العالية والقمة السامقة، يدركه المرء لأول وهلة، ويظهر أثره في وجهه الشريف؛ يقول أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِه (البخاري ومسلم).
و(خِدرها): الخدر ستر يُجعل للبكر في جانب من البيت.
☼ ولم تكن صفة الحياء عنده صلى الله عليه وسلم صفة طارئة، بل كانت صفة ملازمة له في كل أحيانه وأحواله؛ في ليله ونهاره، وفي سفره وإقامته، وفي بيته ومجالسه، ومع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والعالم والجاهل.
☼ لقد حاز صلى الله عليه وسلم خلقَ الحياء في أرقى صوره وأشملِها؛ فكان حَييًا مع ربِّه عزَّ وجلَّ، حَييًا مع أمته، حَييًا مع نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم.
☼ فأما حياؤه صلى الله عليه وسلم مع ربِّه عزَّ وجلَّ؛ فكان أعظم حياء وأكمله؛ وكيف لا يكون كذلك وهو القائل صلى الله عليه وسلم: «الله أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» (أبو داود والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني)؟!
☼ وقد كان من أمر حيائه صلى الله عليه وسلم، أنه كَانَ إِذَا أَرَادَ حَاجَةً لا يَرْفَعُ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأَرْضِ (أبو داود والترمذي وحسنه الألباني).
☼ ويقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحَيَاءَ وَالسَّتْرَ؛ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ» (أبو داود والنسائي وصحح الألباني).
☼ وأما حقيقة هذا الحياء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم دلَّنا كيف يكون حياء العبد من ربِّه سبحانه؛ فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لله.
قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ الله حَقَّ الحَيَاءِ» (الترمذي وأحمد وحسنه الألباني).
هكذا يكون حياء العبد من ربِّه عزَّ وجلَّ، وهكذا كان حياء نبينا صلى الله عليه وسلم من ربِّه؛ بل هو أعظم من ذلك، وكيف لا وهو صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم؟!!
☼ ودفعه حياؤه صلى الله عليه وسلم من ربه لأن يقوم الليل حتى تفطَّرَت قدماه، فلما قالت له عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ الله، أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فقال: «يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» (البخاري ومسلم).
و(تَفَطَّرَ): تتشقق. وتقدم تخريجه.
إن الحييَّ الشَّكُورَ صلى الله عليه وسلم يستحي أن ينام عن شُكرِ مولاه عزَّ وجلَّ، مع عظيم فضله وإحسانه!!
إنه حياء التقصير، وهو كحياء الملائكة الذين يُسَبِّحُون الليل والنهار لا يفترون؛ فإذا كان يوم القيامة؛ قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك!
☼ ثم هو حياء الإجلال؛ فكان حياؤه صلى الله عليه وسلم من ربِّه عزَّ وجلَّ في ذلك أكمل الحياء؛ ومن ذلك ما كان منه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج، في قصة مراجعته ربَّه عزَّ وجلَّ؛ ليسأله التخفيف على أمته، مما افترضه عليه من الصلوات الخمسين، التي كانت قد فرضت؛ بناء على نصيحة موسى عليه السلام له بذلك، فإنه مازال يتردد بَيْنَ موسى عليه السلام، وبَيْنَ ربِّه جلَّ وعلا، يراجع ربَّه؛ يسأله التخفيف لأمته؛ فلما أكثر الترددَ على الله يسأله التخفيف، قال لموسى عليه السلام: «اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي» (جزء من حديث الإسراء الطويل؛ أخرجه البخاري ومسلم).
وما حملَه على الاستحياء إلا بالغ حيائه صلى الله عليه وسلم من ربِّه عزَّ وجلَّ، وإجلاله له.
☼ وأما حياؤه صلى الله عليه وسلم من أمته؛ فكان في إيثارهم بأخصِّ حقوقِ نفسه وأهمِّها وراحة ضميره؛ كما في قصة بنائه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها، ومكث بعض القوم يتحدثون في بيته بعد انتهائهم من طعام العرس، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يستحيي منهم أن يقول لهم شيئًا، وآثر تحمل مشقة ذلك؛ إيثارًا لراحـة أصحـابه!!
حتى تولى الله عزَّ وجلَّ بنفسه بيان ذلك رحمـة بنبيـه صلى الله عليه وسلم؛ وإعظامًـا لحقـه، وتعليمًا لعباده ما يجب عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب؛ فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ" [الأحزاب: 53].
☼ وكان من كمال حيائه صلى الله عليه وسلم مع أمته؛ عدم التصريح لهم في وجوههم بما يكرهون؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ؛ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلانٍ يَقُولُ، وَلَكِنْ يَقُولُ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا» (أبو داود وصححه الألباني).
☼ ومن المواقف الدالة على عظيم حيائه صلى الله عليه وسلم ما روته عَائِشَةُ رضي الله عنها، أن امْرَأَة سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْ حَيْضَتِهَا؟ فَذَكَرَتْ أَنَّهُ عَلَّمَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرُ بِهَا. قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: «تَطَهَّرِي بِهَا، سُبْحَانَ الله!» وَاسْتَتَرَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاجْتَذَبْتُهَا إِلَيَّ، وَعَرَفْتُ مَا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم... (البخاري ومسلم).
☼ فحمله ما اتصف به من عظيم الحياء على الإعراض عن التفصيل في هذا الأمر؛ حتى استتر من المرأة، وغطى وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، حتى تولَّته أمُّ المؤمنين، لتعلقه بأمور النساء الخاصة.
☼ وأما حيـاؤه صلى الله عليه وسلم من نفسه، والذي يكون بالعـفَّة وصيانة الخلوات؛ فتقول عائشة رضي الله عنها، في وصف عفَّة لسانِه وجميلِ منطقه صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا، وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ... » (الترمذي وأحمد وصححه الألباني).
و(مُتَفَحِّشًا): المتفحش: البذيء وسيئ الخلق، و(صَخَّابًا): الصخب: اختلاط الأصوات وارتفاعها.
☼ وكان صلى الله عليه وسلم يقول- معظمًا شأنَ الحياءِ-: «الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ، وَالجَفَاءُ فِي النَّارِ» (الترمذي وأحمد وصححه الألباني).
فبين صلى الله عليه وسلم أن الحياء مقابل البذاء ولا يستقيم معه، والبذاء هو الفحش في القول.
☼ وأما خلواته صلى الله عليه وسلم؛ فتروي لنا عائشة رضي الله عنها، واحدة منها؛ فتقول: افْتَقَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ؛ فَتَحَسَّسْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ؛ فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؛ إِنِّي لَفِي شَأْنٍ، وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ!!
☼ ويروي لنا عبد الله بن الشِّخِّيِر رضي الله عنه، موقفًا آخر؛ فيقول: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ؛ يَعْنِي يَبْكِي» (النسائي وأبو داود وصححه الألباني).
ومواقفه صلى الله عليه وسلم غير ذلك كثير؛ فهكذا كانت خلواته صلى الله عليه وسلم!! وهكذا كان حياؤه صلى الله عليه وسلم.
ولا شكَّ أن حياءه صلى الله عليه وسلم من نفسه فرعٌ وثمرةٌ أيضًا عن حيائه من ربِّه، ولصيق الصلة به.
وصدق الله: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ".
* * *