البحث
دار الأرقم
6691
2011/07/19
2024/12/21
دار الأرقم
دارٌ أحْيَتْ البيوتات والدُور . دارٌ نثرت في ربوع العالم الحضارة والنور . دارٌ تـَخَرّجَ فيها سادة العالم، وأنتجت للدنيا العلماء والفقهاء والأدباء والمجاهدين والمجددين .
أحقُ دارٍ بأن تدعى مباركةً؛ دارٌ جلس فيها أعظم الأنبياء إلى أعظم الأتباع ليَعُدَهم أعظم أمةٍ أُخرجت للناس .
إنها دارٌ الأرقم .. التي هي مَنْبَعُ السُّؤددِ والمجدِ، ومنشأ العلم الراسخ، والفتح المنيف الباذخ.
مقر الدعوة
كانت دار الأرقم ابن أبي الأرقم المخزومي هي أول مؤسسة تربوية في تاريخ الإسلام، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجتمع فيها بأصحابه يتلو عليهم القرآن، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة .
وكان لابد من أن يجتمع المربي بتلاميذه، والقائده بأمرائه، وكان لابد من مَقرٍ يجتمع فيه العاملون للدعوة، حيث تُفَصلُ فيه الآيات، وتُشرح فيه الدروس، وتُحلل فيه الأحداث، وهي أمور تضيق بها الخطب العامة، واللقاءات العابرة.
إذًا كان لابد من هذه المؤسسة التي تَفْصِل بين العمل الدعوي العام ـ الموجه للناس كافة ـ والعمل التربوي الخاص ـ الموجه لرجال الدعوة خاصة ـ، وهذا الأخير؛ إذا نجح، نجح العمل العام، فهو كالسراج كلما اشتد وهجه أشتد أثره. وكلما كانت الجرعة التربوية مُرّكّزة كلما مُحقتْ الشبهاتُ الفكريةُ التي تدور على رؤوس الشباب الأحداث في الدين، كالسراج ـ أيضًا ـ كلما قَوّيت شُهبُه كان أبصر للناس إذا ادلهمّتْ الظُلَمُ. فهذا الذي يشتكي كثرة القلاقل الفكرية في رأسه؛ إنما يشتكي ضعف التربية في نفسه، والذين جاهدوا أنفسهم، في الله هداهم سبله.
السرية
واختار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الدار بالذات ـ في مرحلة الدعوة السرية ـ لعدة عوامل أهمها: أن هذه الدار لفتىً صغيرٍ ـ هو الأرقم ـ ومن قبيلةٍ معاديةٍ للإسلام ـ هي بني مخزوم ـ، وهي قبيلةُ أبي جهل أشد القبائل عداوة لبني هاشم، فلم يكن أحدٌ يتوقع أن تكون الاجتماعات السرية للمسلمين في دار لفتى من أغمار المسلمين حيث تكون الأنظار على رجالات الدعوة الكبار، ولم يكن لأحد أن يُفتش عن لقاءات محمد – صلى الله عليه وسلم – في بيوت أعدائه .
وحافَظَ المسلمون على سرية مقرهم ـ حتى لا يُفسده المشركون ولا يلاحقون المسلمين من وقت لآخر كما يفحل جلاوزة الليل مع الدعاة ـ، ولا أدل على ذلك من قصة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ التي وقف فيها خطيبًا في المسجد الحرام يدعو الناس إلى الله فقاموا إليه وضربوه ضربًا شديدًا حتى فقد وعيه، و دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين و يحرفهما لوجهه، وحُمل أبوبكر إلى بيته، ولا يشك الناسُ في موته ثم استفاق وسأل عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يجبه أحد. و قالوا لأمه أم الخير : انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه فلما خلت به ألحت عليه و جعل يقول : ما فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ فقالت : و الله مالي علم بصاحبك، فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه . فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟ فقالت : ما أعرف أبا بكر و لا محمد بن عبد الله و إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك، قالت : نعم فمضت معها حتى و جدت أبا بكر صريعا دنفًا فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح و قالت : و الله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
قال : فما فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قالت : هذه أمك تسمع ، قال : فلا شيء عليك منها، قالت : سالمٌ صالحٌ، قال : أين هو ؟ قالت : في دار ابن الأرقم
قال : فإن لله على أن لا أذوق طعامًا و لا أشرب شرابًا أو آتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ [1].
" فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِجل ، وسكن الناس ، خرجتا به يتكئ عليها حتى أدخلتاه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأكب عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقبله ، وأكب عليه المسلمون ، ورق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رقة شديدة"[2].
تأملْ ما وضعتُ تحته خطًا، وانظر إلى فعل أم جميل ـ رضي الله عنها ـ، إذ أنكرت معرفتها بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبأبي بكر، ولم تخبر أمُ أبي بكر بمكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حتى إذا دخلت أم جميل على أبي بكر تعوده وسألها عن مكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أنكرت عليه، وهي تقول : " هذه أمك تسمع " ، أي كيف أخبرُكَ وهذه أمك تسمعنا وهي ليست منّا. فلما طمأنها بقوله : " فلا شيء عليك منها" ، قالت : سالم صالح ... في دار ابن الأرقم.
وإمعانًا في المحافظة على سرية دار الأرقم؛ خرَجنَ به بعد أن " هدأت الرِجل ، وسكن الناس " .
وكل هذه الاحتياطات الذكية إنما هي ثمرة التربية الأمنية التي تقتضيها هذه المرحلة والتي يحتاج إليها أصحابُ الدعوات لاسيما في أوقات المحن.
الاستمرارية
واستمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إحياء هذا المحضن التربوي، ولم ينقطع عن فعاليته في أغلب فترات المرحلة المكية، وفي ثنايا ذلك شَهدتْ الدارُ قصة إسلام عمر ـ رضي الله عنه ـ وخَرَج أربعون مسلمًا من دار الأرقم متوجهين نحو المسجد؛ في قَومةٍ مُتفِقة، بقلوب متعاضدة، وأيادٍ متأيدة، في صفوف متسقة ـ كأنها تظاهرة شِبه صامتة ـ لممارسةِ العبادات الإسلامية علنًا عند الكعبة، وهذه الانفراجة لم تُعطل ما شرعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دار الأرقم، ولم يتوقف المشروع التربوي الكريم الذي خلّدَ ذِكرَ هذه الدار التي صارت من معالم مكة فيما بعد.
واستمرت دارُ الأرقم حية بإحياء شباب مكة وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ويفدُ إليها العربُ من خارج مكة ـ سرًا ـ كأبي ذَرٍ الغفاري وغيره -فيخرجون من الثبور إلى الحبور، ولم يُذكر أنها توقفت اللهم إلا في سفرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الطائف في العام العاشر من البعثة .
وربما لم تتوقف، وهذا في الغالب، فلعل قُرَّاء الصحابه كانوا يجتمعون بالمسلمين الجدد فيها وفي بيوتهم، في نظام أشبه بالأُسر التربوية أو الحِلق التعليمية؛ لكلِ أسرةٍ معلم، ولكل مجموعة نقيب، ومثالُ ذلك ما أبانته قصة إسلام عمر – رضي الله عنه – إذ لما دخل بيت ختنه وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو [ زوج فاطمة بنت الخطاب]؛ فُوجِيءَ بخباب بن الأرت ومعه صحيفة فيها سورة طه يقرئهما إياها .. ويظهر من ذلك أن علماء الصحابة في هذا الوقت كانوا يتعهدون البيوتَ سرًا لتعليم المسلمين.
إذاً كانت دار الأرقم هي مقرُ العمل التربوي الدعوي وما عداها من دور فتابعٌ لها، إذ كانت هذه الدار تُخَرِّجُ الصحابةَ فتنثرهم في بيوت مكةَ دعاةً إلى الله هنا وهناك ..
المهام
التلاوة، التزكية، التعليم .. كانت هذه الثلاثية التائية هي مهام النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الدار، وهي المهام التي حددها الله تعالى لـمُعِدي الأمم والحضارات ، قال الله تعالى :
{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ : يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }[آل عمران:164]
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ : يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }[الجمعة:2].
أما التلاوة، فقد كانت هي المهمة الأولى : {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ }، وكانت هي التكليف الأول : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }[العلق1]، وكانت هي الوسيلة الأولى لتبليغ رسالات الله {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }[العنكبوت18]. فالقراءة المستمرة لهذا الكتاب هدفٌ رئيسي للدعاة، وتكليف منوط بهذه الأمة المكلفة بتبليغ هذا الدين للناس ...
لقد كتب الله أن يُرَتلَ هذا الكتابُ إلى قيام الساعة؛ فلن يتوقف ترتيله ما دام الليل والنهار، ليكون ـ دومًا ـ البلاغ الماثل، والبث المستمر، والكتاب المفتوح الدائم المهيمن.
وأما التزكية؛ هي التربية، وهي المهمة الثانية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأتباعه من المربين والدعاة : {وَيُزَكِّيهِمْ}، فإذا قَرأ عليهم القرآن؛ تهيئتْ نفوسُهم بعد ذلك لتلقي الدروس والتربوية ومكابدة الصعاب في سبيل تطهير النفس وتحليتها بمكارم الأخلاق .
ولا حراك لنهضة لا تقوم على التربية، ولا فكاك لوطن ـ من الاحتلال ـ دون تربية، ولا دولة دون تربية، ولا خلافة دون تربية ... التربية هي الطريق .
وهكذا نَصَ القرآنُ على المهمة التربوية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ليكون في ذلك درسٌ لأصحاب الدعوات الإسلامية .
والمهمة الثالثة، هي التعليم :{وَيُعَلِّمُهُمُ : الْكِتَابَ، وَالْحِكْمَةَ}، ولم نر يومًا أن الله مكن للجاهلين .. وإنما تدور دولةُ الدول على أعلم الناس .
وكانت المادة الدراسية التي يعلمها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتلاميذ دار الأرقم منحصرة في فرعين :
الأول : الكتاب وهو القرآن
الثاني : الحكمة، وهي كل علم نافع، وفكر ناجع، وهي كل مَثل وقصة وموعظة ونصيحة تحمل خيرًا، وهي كل فعل أو قول أو تقرير ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
إذاً كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوسع عقلاً، وأرجح رأيًا مِن هؤلاء الذين حصروا العلم في متون جامدة، وفروع ثابتة .
لقد كانت المادة الدراسية في دار الأرقم هي الكتاب والحكمة، وكان الصحابة يتلقون دروس القرآن وتعاليم الحكمة؛ غضة طرية، سهلة لينة، من صاحب الخُلق العظيم في ظلال المعايشة التربوية في دار الأرقم .
توصية عملية :
1ـ مفاتيح دار الأرقم : التاءات الثلاث : التلاوة، التزكية، التعليم؛ فاجعل لنفسك منهن منهلاً .. وافتح ديوان نفسك، وكن رقيب أمرك.
2ـ ولا تفوتن يومًا إلا وقد قرأت من القرآن وردًا، وزكيت نفسك موعظة، وعلمت نفسك علمًا . هذا في كل يوم .
3ـ ثم اجمع أصدقائك في دارك حول هذه الثلاثية، مع شيخ ثقة، أومعلم فَقِه، أو باحث شرعي، أو كاتب إسلامي، أو أديب أريب، أو نبيل جليل، ولتسعْ جاهدًا إلى أَرْقمةِ بيتك. وهذا في كل أسبوع .
--------------------
[1] انظر : ابن كثير ( السيرة) 1/439
[2] أبو نعيم : معرفة الصحابة، برقم 7274