البحث
غزوة تبوك - رجب 9 هـ
4757
2012/01/08
2024/12/21
غزوة تبوك
رجب 9 هـ
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }التوبة33
زاع أمر الدولة الإسلامية الناشئة التي باتت ملأ السبع والبصر، وأحست الكنيسةُ بالخطر الذي يهدد سلطان رجال الدين النصراني الذين يرفضون مجاورة أناس يختلفون معهم في مسألة فرعية أو جزيئة من مسائل النصرانية؛ فكيف بهذا الجيل الجديد الذي يأبى الاستكانة ، وكيف بهذا المنهج الجديد الذي يزيل سلطان الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ؟
لذا استنفرت الكنيسةُ، وشُحذت همم الرومان، وأجمعوا أمرهم، ومن ورائهم أزيالهُم من العرب المتنصرين العملاء؛ الذين رضوا أن يكونوا حمولة وفرشًا للغرب الكافر، وأبوا أن يكونوا مع المؤمنين من بني جلدتهم .
فجمع الرومان جمعًا كثيرًا بالشام، فكوّنوا جيشًا كبيرًا من قبائل لخم، وجذام، وعاملة، وغسان، وهي من نصارى العرب، وكان قصد هرقلُ من ذلك، الهجوم على المدينة والقضاء على الدولة الناشئة في جزيرة العرب؛ حيث أصبحت حدود الرومان مهددة، وشعوب المنطقة العربية تنظر إلى الإسلام نظرة الغريق إلى طوق النجاة .
وصلت الأنباءُ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الرومان قد جهزت جيشًا لغزوة دولة المسلمين، فأراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يغزوهم قبل أن يغزوه، وأن يباردهم قبل أن يبادروه، والحرب خدعة، وفي المبادرة قوة، ولاسيما أنها ليست المرة الأولى للمسلمين؛ إذ خرجوا من قبلُ إلى الرومان في سرية مؤتة التي هزت هيبةَ الرومانِ، وعلا بها نجم الإسلام في شمال الجزيرة، واستتب الأمر للمسلمين أكثر وأكثر بعد غزوتي الفتح وحُنين.
التجهز والتعبئة :
أعلن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قاصدٌ أكبرَ دولة في العالم، وأنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليتجهز للغزو .
ونزل النداء القرآني :
{انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }التوبة41
وكان المسلمون يهرعون نحو هذا النداء مجيبن كما يَزفُ غيرُهم نحو عرض الدنيا مسرعين. كان الجهاد عند الصحابة ألذ من ملاعبة النساء !
ورغم قساوة الظروف، فهم في شدة الحر، وقلة الزاد، وقرب جني الثمار ـ بادر المسلمون بالتجهز، وقدم المسلمون من القبائل المسلمة ـ من خارج المدينة ـ وقد أرسل النبي إليهم رسله يستنفرهم.
وتأخر أقوامٌ من المؤمنين في التجهز .. لقد تجهزوا وخرجوا لكنهم تباطئوا، فخاطبهم الله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }التوبة38
وعمومًا لم يرض أحدٌ من المؤمنين أن يتخلف عن هذه الغزوة :
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } [التوبة : 44 ، 45].
ولم يتخلف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أربع فئات :
1ـ فئة المنافقين والأعراب: وكانوا يعتذرون بأعذار واهية تافهة:
{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }التوبة49
وكانت مذلة، وأي مذلة، أن يجاهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكابد الحر والشدة ، وهو في سن الستين بينما يجلس بعض الشباب وبعض أولي المال في الظلال الوارف في أحضان النساء:
{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ .رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }التوبة، 86، 87
وهؤلاء الفسقة فرحوا فرحًا شديدًا بمقعدهم خلاف المؤمنين، وشجعوا الناس على التخلف، وقبضوا أيدهم ، ورفضوا أن يجاهدوا العدو الروماني المحدق بهم جميعًا، وقد كانوا عزموا على مداهمة المدينة وإبادة خضرائها مسلمين ومنافقين :
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) } [التوبة : 81 ، 82].
وجاءت جماعة من الأعراب، يطلبون التخلف من غير عذر، رغم أنهم أهل البادية، وهم أجدر الناس بالتقشف وشظف العيش، ولكنّ النفاق يفعل بالقلوب الأفاعيل :
{وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }التوبة90
وقد أخبر القرآن بحالهم، وكانت المفاجئة، أنهم أشد كفرًا من كفار قريش، وأشد نفاقًا من نفاق ابن سلول وجماعته :
{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }التوبة97
ومنهم جماعة المتربصين :
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }التوبة98
وهناك جماعات أخرى منهم، تعمل في الخفاء لا يعلمهم أحدٌ إلا الله :
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }التوبة101
2ـ فئة الضعفاء: وقد عذرهم الله تعالى :
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) [التوبة : 91 - 93]
3 ـ الثلاثة الذين تاب الله عليهم: وهم كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّة، وقد عاقبهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنذكر ذلك .
4 ـ الذين لم يجدوا ظهرًا: فكان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ ليخرجوا إلى الجيش، فإذا قال لهم: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92].
« مَنْ يُجَهِّزُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ !!»[1]..
هكذا كان ينادي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المسلمين؛ أن يدعموا مسيرة الجهاد، أن يبذلوا من مال الله لقتال أعداء الله .. فتسابق المسلمون في الإنفاق؛ وضربوا أروع الأمثلة في العطاء، فهذا عثمان قد جهز قافلةً تجاريةً للشام؛ مائتا بعير بأقتابها[2] وأحلاسها[3]، ومائتا أوقية، فتصدق بها، ثم تصدق بمائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فكان رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقلبها ويقول:" مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ" ـ مرتين[4] ـ . لقد تصدق عثمان ـ رضي الله عنه ـ، ثم تصدق وتصدق وتصدق، حتى بلغ مقدار ما أنفق تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود.
وجا عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس وطلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن عدي وغيرهم، كلهم جاءوا بمال كثير.
الجميع ينفق مما أعطاه الله، حتى الفقراء وأهل الحاجة، تتابعوا جميعًا بصدقاتهم، فمنهم من يأتي بمدٍ من طعام، ومنهم من يأتي بحفنة من بُر في كفه .
وأرسلت النساء ما قدرن عليه من حُلي وأدوات منزلية .
مشهد بديع في المسجد : أموال الجهاد أمامك، أكوام من تمر وبُر، أدوات منزلية، وحُلي نسائية ... صورةٌ تنم عن مجتمعٍ أخلص نفسه لله، ينفقون على ما بهم من فقر وخصاصة، الجميع يبذل، الجميع يضحي، فليس بين المجاهدين مكانٌ للبخلاء ولا الجبناء ولا الكذابين.
مشهد كريم في تعاون المؤمنين والمؤمنات على الجهاد :
" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)" [ التوبة].
لكنْ المنافقون ينظرون إلى هذه النماذح المشرقة، فتمتلىء قلوبهم غيظًا وحقدًا، فلا يفلحون في شيء إلإ في طعن المؤمنين، فإذا ما رأوا مؤمنًا يقْبلُ بصدقة صغيرة قالوا : وما تنفع هذه ؟
وإذا رأوا الغني يبذل المال الكثير ـ كعثمان ـ قالوا : رياء . فأنزل الله ـ تعالى ـ فيهم:
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }التوبة79
مسير الجيش :
فلما تجهز المسلمون، استعمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المدينة محمد بن مسلمة، واستخلف على بن أبي طالب نقيبًا في بني هاشم، فخاض المنافقون في أمر علي ـ رضي الله عنه ـ، وقالوا : مَا خَلّفَهُ إلا اسْتِثْقَالاً لَهُ وَتَخَفّفًا مِنْهُ . فلما زاع ذلك في المدينة، خرج عليٌ ـ رضي الله عنه ـ بسلاحه، فلحق برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فَقَالَ : يَا نَبِيّ اللّهِ ! زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنّكَ إنّمَا خَلّفَتْنِي أَنّك اسْتَثْقَلْتنِي وَتَخَفّفَتْ مِنّي !
فَقَالَ: "كَذَبُوا ، وَلَكِنّنِي خَلّفْتُك لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي ، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِك ، أَفَلا تَرْضَى يَا عَلِيّ أَنْ تَكُونَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ إلّا أَنّهُ لا نَبِيّ بَعْدِي"[5] !
فرجع مرفوغ الرأس، وواصل الجيش الإسلامي، سيره إلى تبوك .
لن ينجو المؤمن من لمز المنافقين أنفق كثيرًا أو قليلاً، خرج أم قعد، غاب أم حضر ـ {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }البقرة15
أبو خيثمة :
ثُمّ إنّ أَبَا خَيْثَمَةَ ـ رضي الله عنه ـ كان من المؤمنين الذين تثاقلوا، وعاتبهم الله تعالى، فحدث أنه رجع إلى بيته ـ بعد أن خرج الجيش الإسلامي بأيام ـ فَوَجَدَ أبو خيثمة امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشّتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا . فَلَمّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ : " رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فِي الضّحّ[6] وَالرّيحِ وَالْحَرّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، فِي مَالِهِ مُقِيمٌ ! مَا هَذَا بِالنّصَفِ !! "
ثُمّ قَالَ : " وَاَللّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فَهَيّئَا ؛ لِي زَادًا " . فَفَعَلَتَا . ثُمّ قَدّمَ نَاضِحَهُ[7] فَارْتَحَلَهُ، ثُمّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ حَتّى أَدْرَكَهُ ..
حَتّى إذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ، قَالَ النّاسُ : هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطّرِيقِ مُقْبِلٌ !
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ : "كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ " ؛ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ وَاَللّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ !
فَلَمّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلّمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ: " أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيْثَمَةَ[8] !! ". ثُمّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرَ ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ[9]
أبو ذر :
ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ سَائِرًا ، فَجَعَلَ بعض الناس يقولون : يَا رَسُولَ اللّهِ تَخَلّفَ فُلانٌ ! فَيَقُولُ : " دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيَلْحَقُهُ اللّهُ تَعَالَى بِكَمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ"...
ومرض بعيرُ أبي ذر، فلما أبطأ عليه، تركه أبو ذر، وأَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ مَاشِيًا . وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الرّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطّرِيقِ وَحْدَهُ !
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ : " كُنْ أَبَا ذَرّ" .
فَلَمّا تَأَمّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ وَاَللّهِ أَبُو ذَرّ !
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ : " رَحِمَ اللّهُ أَبَا ذَرّ ، يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ "[10] .
ومضت الأيان، وجاء عصر عثمان، وسُيَّر أبو ذر إلى الرَّبدة، فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه: إذا متُّ فاغسلاني وكفناني ثم احملاني فضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمرُّون بكم فقولوا: هذا أبو ذر، فلما مات فعلوا به كذلك فطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقال: ماهذا ؟ فقيل: جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده ! فنزل بدفنه[11] .
لا زال الجيش في طريقه إلى تبوك ..
ثلاثون ألف جندي مسلم في طريقهم إلى أكبر دولة في العالم، المهمة صعبة، المنافقون يتربصون، العالم يترقب.
المؤمنون ضربوا المثل الأعلى في الصبر؛ العدة ضعيفة، الزاد قليل، كل ثمانية عشر رجلاً يعتقبون بعيرًا واحدًا، العطش بلغ بالناس مبلغًا مريعًا، لقد أضطروا إلى ذبح بعض الظهور ليشربوا ما في كرش البعير من ماء، الجوع يفري بطون المؤمنين، أحيانًا يتبلغون بورق الأشجار، زكريات الحصار والوثيقة الظالمة تستفز وجدان المؤمنين .. لكنْ لا ضير، إنّ الله معنا، سيجعل اللع بعد عسر يسرًا.
هنا تاب الله على المؤمنين ! وفي مثل هذه المشاهد تتنزل الرحمات التي قد لا تُدرك في الركيعات والعُمرات والحجات :
{لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }التوبة117
ثم بدا شيءٌ من الفرج، فقد اقتربوا من ديار وآبار ثمود ـ الذين جابوا الصخر بوادي القرى ـ ياللفرج !! أقبل الناس على آبار الماء العذب، وإذا بنداء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرن في الآذان :" لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ".. ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ[12].
ثم قال : "لا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلا تَتَوَضّئُوا مِنْهُ لِلصّلاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الْإِبِلَ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا"[13]، فاستجابوا على التو .
ثم أمرهم أن يستقوا من بئر معينة في هذه الديار الملعونة، كانت هي البئر التي تردها ناقةُ اللهِ، التي كانت آية، فعقرتها ثمود .
"كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) " [ الشمس].
إن آثار الظالمين؛ ينبغي ألا تتخذ للتفكه ؛ إنما ينبغي أن تكون لاعتبار والاتعاظ، فإذا ما ذهبت إلى بعض الأماكن السياحية التي هي في الأصل أثرٌ لأقوام ظالمين كالفراعنة وغيرهم؛ فينبغي عليك ألا تدخلها إلا معتبرًا، وحبذا البكاء من خشية الله في مثل هذه الأماكن :
{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ }إبراهيم45
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى }طه128
معجزة السحابة :
ثم اشتد حاجة الجيشُ للماء مرة أخرى، فشكوا ذلك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وطلبوا منه أن يدعوا الله، فدعا، فأرسل الله صيبًا من السماء، فارتووا، واحتملوا منه . فأقبل ناسٌ من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رجل من المنافقين معلوم النفاق يقولون له : وَيْحَك ، هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ !! فقَالَ : سَحَابَةٌ مَارّةٌ !
{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }يوسف105
معجزة عين تبوك :
عن معاذ بن جبل، قال : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يَجْمَعُ الصَّلاةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ : " إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ" .
فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلانِ[14] وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ[15]، تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ[16]، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : "هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟" قَالا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلاً حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، وَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ : " يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا"[17].
وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد باتت تبوك جنةُ من جنان الله في الأرض، وهي الآن كذلك؛ تشهد بصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
معجزة الإخبار بالعاصفة :
ولما أقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تبوك، قال ـ محذرًا ـ:
"سَتَهُبُّ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالَهُ"، فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ[18] . وكانت معجزة.
الجزية :
عسكر الجيش الإسلامي في تبوك نحو عشرين يومًا، يكاتب زعماء المنطقة، ويرسل رسله، ويبث الرعب في قلوب المجرمين، وقد نصره الله ـ تعالى ـ نصرًا نفسانيًا مؤذرًا؛ فتفرقت جموع الرومان، وانزوى كل زعيم إلى جحره، وهي والله معجزة ! فما إن سمعوا بمقدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا وخارت نفوسهم، ووهنت عزائمهم، {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ }آل عمران151
وجاء "يُحَنّةُ بْنُ رُؤْبَةَ" زعيم " أَيْلَةَ"[19] ، فَصَالَحَ رَسُولَ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ ، فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ لَهُمْ كِتَابًا ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ . وكان كتابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصاحب أيلة : " بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنْ اللّهِ ، مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ لِيُحَنّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ ، سُفُنُهُمْ وَسَيّارَتُهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ النّبِيّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ ، وَأَهْلِ الْبَحْرِ فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا ، فَإِنّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ . وَإِنّهُ طَيّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النّاسِ وَإِنّهُ لَا يَحِلّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ وَلا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرّ أَوْ بَحْرٍ"[20] .
وفي ذلك يقول الله تعالى :
{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }التوبة29
القبض على ملك دومة الجندل :
ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ دَعَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَبَعَثَهُ إلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ، وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا ، وَكَانَ نَصْرَانِيّا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ لِخَالِدِ إنّك سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ ، فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى إذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ فَبَاتَتْ الْبَقَرُ تَحُكّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : هَلْ رَأَيْت مِثْلَ هَذَا قَطّ ؟ قَالَ: لا وَاَللّهِ ؟ قَالَتْ : فَمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ ؟ قَالَ : لا أَحَدَ . فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. فَرَكِبَ وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمُطَارِدِهِمْ . فَلَمّا خَرَجُوا تَلَقّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فَأَخَذَتْهُ[21] .
وكان أكيدر يرتدي حُلة من الديباج، مخوصة بالذهب، فاخرة جدًا، فَاسْتَلَبَهُا خَالِدٌ، فَبَعَثَ بِهِا إلَى رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ قَبْلَ قُدُومِهِ بِهِ عَلَيْهِ، بشارة وأمارة، وليفرح بها المؤمنون.
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }التوبة14
فلما وصلت هذه الحُلة الفاخرة، إلى حضرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل المسلمون ينظرون إليها ويتعجبون، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُربيًا ـ : " أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ خَيْرٌ مِنْهَا أَوْ أَلْيَنُ"[22] .
"وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"[التوبة : 100]
ثم لما سُلِّم هذا الملكُ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فحقن دمه، وصالحه على الجزية، وخلّى سبيله .
لقد كان لهذا الموقفِ أثرٌ كبير في نفوس العرب العملاء الموالين للرومان، وأدركوا أن عمالتهم للرومان باتت لا محل لها من الإعراب، لقد سقطت هيبة الرومان سقوطًا مدويًا، ومما زاد في ذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكث بجيشه مدة عشرين يومًا يفعل ما شاء الله أن يفعل، ولا أحدٌ تجرأ ورفع سيفًا نحو المسلمين .
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"[التوبة : 73].
محاولة اغتيال :
وعاد الجيش الإسلامي من تبوك دون قتال، غير أن نتائج هذه الغزوة لا تقل عن نتائج الغزوات القتالية، فضلاً عما أحدثته هذه الغزوة من تمحيص للصف المسلم.
وفي طريق العودة من هذه الغزوة؛ حدثت محاولة أثيمة لاغتيال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبل جماعة من المنافقين، ذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقفُ على مرتفعٍ من الطريق يتفقد الجيشَ ، فيسأل عن الغائب، ويعيين من أبطىء به بعيره، حتى إذا كان ببعض الطريق، مَكَرَ بِرَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَتَآمَرُوا أَنْ يقتلوه، حينما ينصرف الجيش، ويبقى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحيدًا، حتى إذا رآهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا متلثمين، علم ما هموا به، فغضب لذلك غضبًا شديدًا، فأمر حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ َ أَنْ يَرُدّهُمْ، وَأَبْصَرَ حُذَيْفَةُ غَضَبَ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فَرَجَعَ وَمَعَهُ مِحْجَنٌ، وَاسْتَقْبَلَ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا بِالْمِحْجَنِ[23]، فَأَرْعَبَهُمْ اللّهُ سُبْحَانَهُ حِينَ أَبْصَرُوا حُذَيْفَةَ وَظَنّوا أَنّ مَكْرَهُمْ قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَأَسْرَعُوا فارين مزعورين حَتّى خَالَطُوا النّاسَ، وَأَقْبَلَ حُذَيْفَةُ حَتّى أَدْرَكَ رَسُولَ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ، فحدثه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسمائهم وصفاتهم واحدًا واحدًا[24].
وفيهم قال الله تعالى : " وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ " [ التوبة : 74].
وَفَاةُ ذِي الْبِجَادَيْنِ :
قال عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ : قُمْت مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَرَأَيْت شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَاتّبَعْتهَا أَنْظُرُ إلَيْهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِذَا عَبْدُ اللّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ الْمُزَنِيّ قَدْ مَاتَ، وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ وَرَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فِي حُفْرَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدَلّيَانِهِ إلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ:
" أَدْنِيَا إلَيّ أَخَاكُمَا "، فَدَلّيَاهُ إلَيْهِ فَلَمّا هَيّأَهُ لِشِقّهِ، قَالَ : "اللّهُمّ إنّي أَمْسَيْت رَاضِيًا عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ ".
قال َعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا سُمّيَ ذَا الْبِجَادَيْنِ لِأَنّهُ كَانَ يُنَازِعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَمْنَعُهُ قَوْمُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُضَيّقُونَ عَلَيْهِ حَتّى تَرَكُوهُ فِي بِجَادِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ـ وَالْبِجَادُ الْكِسَاءُ الْغَلِيظُ الْجَافِي ـ ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فَلَمّا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ شَقّ بِجَادَهُ بِاثْنَيْنِ فَاِتّزَرَ بِوَاحِدِ وَاشْتَمَلَ بِالْآخَرِ، ثُمّ أَتَى رَسُولَ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ فَقِيلَ لَهُ ذُو الْبِجَادَيْنِ لِذَلِكَ[25] .
دخول المدينة :
ولما أَشْرَفَ الجيش الإسلامي عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " هَذِهِ طَابَةُ " فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا، قَالَ : " هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ..أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الْأَنْصَارِ ؟ " قَالُوا : بَلَى . قَالَ : " دُورُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَة ـَ أَوْ دُورُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ـ وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ" يَعْنِي خَيْرًا [26].
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
"إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ" ـ أي في الأجر والثواب .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟
قَالَ :" وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ.. حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ"[27].
وتسامع المسلمون بمقدمه، فخرج الأطفال ـ كما هي عادة التربوية النبوية ـ لملاقاة الجيش، والترحيب والتهنئة، وأخذ الأطفال في النشيد :
طلع البدر علينا **من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
هدم مسجد الضرار:
وكان المنافقون قد ابتنوا مؤسسةً لدس المؤامرات، تحت ستار " مسجد"، وبلغ من تبجحهم أنهم طلبوا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يفتتحه؛ ليحصلوا على الغطاء الشرعي له بصلاة النبي فيه، وقالوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللّيْلَةِ الشّاتِيَةِ وَإِنّا نُحِبّ أَنْ تَأْتِيَنَا ، فَتُصَلّي لَنَا فِيهِ"، فأخبر اللهُ نبيه بحقيقة هذا المسجد والسبب الذي من أجله أُسس، فأرسل من يهدمه، وفي ذلك قال الله تعالى :