البحث
بيعة العقبة الأولى
13694
2011/08/23
2024/11/15
بيعة العقبة الأولى
ذكرنا في الدرس السابق أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في موسم الحج عام 11 من النبوة اجتمع بجماعة من الخزرج ـ وكانوا ستة منهم أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ـ وقد تمخض الاجتماع عن إسلام هذا الوفد المبارك، والعودة إلى المدينة لدعوة أكبر عدد ممكن للدين الجديد، والحضور إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في موسم الحج القادم ( سنة 12 من البعثة)؛ ليلتقي بنخبة من الأوس والخزرج . وقد كان .
وجاء في هذا الموسم اثنا عشر رجلاً فيهم خمسة من الستة الذين جاءوا في العام السابق، وهذا يعني أن كل رجل من الستة دعا رجلاً مثله ـ تقريبًا ـ، وهاكم رهط العقبة الأولى جميعًا ـ الداعون والمدعوون ـ:
الداعون :
وهم الذين حضروا في العامين الماضي والحالي [عدا جابر بن عبد الله بن رئاب؛ فإنه تغيب عن هذه البيعة، وهو من أكابر الصحابة وقد شهد بدرًا وأحدًا] :
1ـ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ ـ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ ـ من بني النجار
2ـ َعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ ـ وقد قتل في بدر ـ وهو من بني النجار .
3ـ رَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلانِ ـ من بني زُرَيْق ٍ
4ـ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ ـ من بني سلمة.
5ـ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي ـ من بني حرام بن كعب
6ـ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَابِ ـ من عبيد بن غنم
وهؤلاء من الخزرج جميعًا
المدعوون :
وهم الذين استجابوا لدعوة إخوانهم الستة .
1 ـ معاذ بن الحارث، ابن عفراء ـ أخو عوف السابق رقم 2 ـ من بني النجار [ من الخزرج ]
2 ـ ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ من بني زُرَيْق ـ قُتل في أحد ـ. [ من الخزرج ]
3 ـ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بْنِ قَيْسِ ـ من بني عوف ـ وهو من علماء الصحباء، وكان نقيبًا ومعلمًا لأهل الصُفة ـ[ من الخزرج ]
4 ـ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ ـ من بني عوف ـ قُتل يوم أُحد[ من الخزرج ]
5 ـ الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضَلَةَ ـ من بني سالم [ من الخزرج ]
6 ـ أبو الهَيْثَم بن التَّيَّهَان من بني عبد الأشهل [ من الأوس ] .
7 ـ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ ـ من بني عمرو[ من الأوس ] .
***
التقى النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهؤلاء الرجال، فبايعهم البيعة الأولى، والتي أُطلق عليه بيعة النساء؛ وذلك لتشابهها مع بنود بيعة النساء عام الفتح سنة 8 هـ، وسُميت بيعة النساء ـ أيضًا ـ لأنها خالية من بند الجهاد .
أما عن بنود هذه البيعة؛ فعن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لهم ـ أي عند العقبة ـ:
"تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى :
1ـ أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا
2ـ وَلا تَسْرِقُوا
3ـ وَلا تَزْنُوا
4ـ وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ
5ـ وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ
6ـ وَلا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ
فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ؛ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ "[1].
***
هذه هي الآفات الست : الشرك، والسرقة، والزنى، والوأد، والكذب، والعصيان. تلك التي أراد رسول الله ُـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يمحوها، وأن يطهر الوطن الجديد منها . إن الدولة النظيفة، لا تقوم إلا على مجتمع نظيف. والدولة الأخلاقية أحرى بالبقاء والتمكين، والدولة الماجنة الفاجرة أحرى بالزوال والانزواء، وإن كانت الأولى تعد في المسلمين، والثانية تعد في الكافرين. فالأخلاق عماد الحضارات، فإن غابت الأخلاق فيها أوشكتْ على الهلاك.لذا قيل : إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والاسلام.
***
هاكم فحوى البنود :
التوحيد
كان البند الأول هو التوحيد، فهو عماد دولة الإسلام، وهو حق الله على العباد، والتوحيد هو مرجعية الدستور والحاكم والمحكوم، والتوحيد هو أساسُ عادات وتقاليد وثقافات الشعوب الإسلامية. فلا تشريع يخالف الأصول الإسلامية، ولا عادةً، ولا تقليداً، ولا فكرًا يخالف العقيدة الإسلامية.
" وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً..." [النساء36]
تحريم السرقة
وكان البند الثاني، هو تحريم السرقة، فمتى تفشت السرقة في مجتمع تفشت مظاهر الظلم الاجتماعي . وحيثما تجد السرقة، تجد بناتها : الخمور والمخدرات والدعارة و "البلطجة".
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[المائدة:38].
تحريم الزنا
وكان البند الثالث، هو تحريم الزنى، فهو أس الخراب الأخلاقي، وهو عمدة اليباب بين الشباب، وطريق الهلاك بين البيوت، والزنى والموت صنوان، وما فشى الزني في مجتمع إلا فشى فيه الموت والريح الحمراء (الأمراض الـمُعدية ) .
قال تعالى :
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً }[الإسراء32]
وقال في صفات عباد الرحمن :
"...وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً" [الفرقان، 68، 69].
وقال في حد الزنى على غير المحصن :
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }النور2
وجاء في الأثر : أن الزِّنى فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب بالبهاء، ويعجّل الفناء، ويقطع الرِّزق من السماء. وأمّا اللواتي في الآخرة فالحساب، والعذاب، ودخول النار.
تحريم قتل الأولاد
وكان البند الرابع، هو تحريم قتل الأولاد، ولفظة "أولاد " هنا تنسحب على الذكور والإناث، ويشتمل هذا البند على تحريم وأد البنات أو قتلهن خشية إملاق أو فقر.
وواعجبا ! هذا النبي الكريم حارب وأد البنات، ونجح في القضاء على هذه العادة إلى الأبد ـ ثم يأتي بعد ذلك أناسٌ يتهمون الإسلام بظلم المرأة !
يا هؤلاء ! لقد كان البند الرابع في البيعة التأسيسية لدول الإسلام منوطًا بإنقاذ المرأة، وإنقاذ البنات، في وقت كان الشرق والغرب يمارسون على البنات أشنع التعذيب والتنكيل، وقد كانت الفلسفة الأوربية في هذا الوقت ترى أن المرأة كائن شرير دون الإنسان وفوق الحيوان، كان هذا الكلام يصدر من ( علماء ) أوربا في هذا الوقت، ذلك الوقت الذي كان فيه محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشترط على الأوس والخزرج ويبايعهم على تحريم قتل البنات..
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً }[الإسراء:31]
تحريم الكذب والبهتان
ثم جاء البند الخامس، الذي قال فيه : "وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ " . وهذا البند يحرم البهتان الذي هو ابن الكذب، ويقال: بهت الرجلُ صاحبه يبهت بهتًا وبهتانا ، أي كذب عليه .
فمجتمعُ الكذبِ والبهتان؛ مجتمعٌ مريض مهزوم متفكك، ليس بيئة صالحة لدولة إسلامية ناشئة. ثم هو البهتان الذي يُنسب فيه الولد لغير أبيه، أو تفتري المرأةُ على الرجل في عرضه، أو يفتري الرجلُ على المرأة في عرضها.
وقد رَبطَ هذا البهتانُ باليد والرِجل، فقال بهتان : " تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ "، ذلك لأن معظم أفعال العباد تنسب إلى الأيادي والأرجل؛ لذا يقال للمسيء : هذا بما كسبت يدُك ، واليد لم تفعل شيئًا . كما أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ "؛ يشير إلى التجاهر والتواطؤ في البهتان، أما التجاهر لقوله : بين أيديكم، يعني من قُدام، يعني كفاحًا جهارًا نهارًا، وأما التواطؤ : لقوله ذلك بصيغة الجمع. والله أعلم .
طاعة وطاعة
أما البند السادس، فهو في الطاعة، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه :"وَلا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ "، ومعنى لا يعصون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في معروف ـ أن الطاعة تكون له كمشرِّع، وكحاكم .. كمشرِّع في أمور الدين، وكحاكم في أمور الدولة. ومن ثم فإن ولاء الأنصار سينتقل من القبيلة إلى الإسلام، ومن زعماء الكفر إلى إمام المسلمين، فلا طاعة عليهم إلا لله ورسوله والمؤمنين وأولي الأمر منهم .
وعلم الله أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يأمر إلا بمعروف، ومع ذلك أشار البند إلى أن الطاعة لا تكون إلا في معروف، كما في قول الحق تبارك وتعالى في بيعة النساء : "وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ " [الممتحنة12]. ذلك لتكون طاعةُ المخلوق في معصية الخالق؛ جديرةٌ بغاية الاجتناب والحذر منها . فمن أمَرَه وليُّ أمرهِ بمعصيةٍ وأطاعه فيها؛ فلا يلومن إلا نفسه، وهذا التحذير نوجهه إلى الناس كافة، وإلى أصحاب المناصب من الخفير إلى الوزير إلى الرئيس إلى الإمام.
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى"[2] .
فهذا الموظف الذي يعمل في الحكومة، أو غيره من رجال الشرطة، وغلمان السلطان، وعسس الأمراء لا عذر لهم أمام الله إن آذوا الناس بحجة تنفيذ أمر الوزير أو الأمير، وإنك لتحاور أحدَهم؛ تقول له : لِـمَ تظلم الناس ؟ فيكون رده ـ الذي توارثته أجيال العار ـ : " أنا عبد المأمور " !
ويح هؤلاء ! إن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول في أمثالهم :
"وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ{47} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ{48}" [ غافر ].
وأمثال هؤلاء، أشار إليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصنف الأول من قوله:
"صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا : قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا"[3].
وقال ـ صلى عليه وسلم ـ:
" ... مَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لا يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا ولا يَفِي بِذِي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي "[4]
وقال ـ صلى عليه وسلم ـ
"عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ؛ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ؛ لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأرْضِ"[5] .
ومَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ـ رضي الله عنه ـ عَلَى أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْبَاطِ بِالشَّامِ، قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ : مَا شَأْنُهُمْ ؟ قَالُوا : حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ ! فَقَالَ : هِشَامٌ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ :
"إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا"[6]
***
أخذ النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ البيعةَ على أصحاب العقبة الصغرى في حدود هذه البنود الستة، التي لم يشر فيها إلى الجهاد العسكري، إنما أشار في هذه البيعة على وجوب طاعته في كل معروف، وهو بند مفتوح لما يُستجد من أحكام شرعية، وتعاليم إسلامية ..
***
" فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " ..
ذلك أن هذه البيعة لا جزاء لهم بها دنيا أو إمارة أو وزارة، إنما أجرهم عند الله، وعلى هذا الأساس الآخروي تُنبى الدول الإسلامية، وتُقام الجماعات الدعوية، فغنيمة العاملين في هذه الدول والدعوات هي " ثواب الله " .
***
" وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ [ أي من هذه المحرمات ] فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ " ..
إشارة ضمنية لقدوم أحكام تشريعية ـ في المستقبل ـ تتعلق بحدود الزنى وقتل النفس وغيرها من الحدود .
إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم في هذه الساعة التي يتحدث فيها إلى رجال العقبة الأولى ـ أنه ستكون أحكامٌ، وستتنزل آيات تشريعية في الكبائر الاجتماعية . يعلم جيدًا أن المرحلة القادمة ـ مرحلة العهد المدني ـ هي مرحلة بناء الدولة، كما علم من قبل أن المرحلة السالفة ـ مرحلة العهد المكي ـ هي مرحلة بناء الجماعة .
وهكذا يتبدى لنا الوعي الحركي والفقه التنظيمي عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ألا فليعلم الدعاةُ أن الدعوة : إيمانٌ وفقه وحركة . أن الدعوةَ عقيدةٌ راسخة تقوم عليها الثقافة الإسلامية الواسعة، تلك التي تتحرك في إطار مراحل مرتبة، وخطط مُنظمة، وجداول عمل، وبرامج تنفيذ، ووسائل دعوية مختلفة ... كل هذه العناصر تسعى حثيثًا ـ في منظموة متكاملة ـ لتحقيق الغاية الكبرى؛ ألا هي رضوان الله تبارك وتعالى ..
***
" وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ".
فلما كان المرد إلى الله، والمبتغى هو الله، كان هو هو وحده يُكافؤ أصحابَ هذه البيعة إذا التزموا بها، وإليه يرجع أمرهم إذا خفروا أمانتها، وخالفوا بنودها، إن شاء عاقبهم بعدله، وإن شاء عفا عنهم برحمته .
***
بَيْعَةٌ أو ... مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ !
قال النبي ـ صلى عليه وسلم ـ :
" مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ؛ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا حُجَّةَ لَهُ . وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً "[7] .
هؤلاء الأنصار ـ رضي الله عنهم ـ بياعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بنود تنسف ركام الجاهلية نسفًا، ولما كانت البَيْعات؛ لا تكون إلا في معروف؛ كانت براءة لصاحبها من ربقة الجاهلية إنْ وَفّى وأدى والتزم البنود.
وإنما وصف النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ميتته بالميتة الجاهلية، لأن أهل الجاهلية كانوا يأنفون من الانصياع لأحد من الناس، ولايقبلون بالدخول في طاعة أحد من الرجال؛ وقد كانوا يتهالكون وليس فيهم إمام مطاع؛ فوصف النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حال من لم يدخل في طاعة إمام المسلمين بحال أهل الجهل والجاهلية. وهذا للتأكيد على خطورة الخروج عليه، علمًا أن فعاليات المبايعة تكون منوطة بمجلس أهل الحل والعقد المنتخب من جماهير المسلمين، لذا فإن المبياعة لا تكون ملزمة على جماهير المسلمين؛ ما دام فيهم مجلس أهل الحل والعقد الذي يمثلهم تمثيلاً شرعيًا .
وليس المراد من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " مات مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " أنه يموت كافرًا بل يموت عاصيًا. فهو إن خلع رداء الطاعة لم يخلع ثوب الإسلام.
... وأخيرًا على كل مسلم أن يسعى إلى إعادة الخلافة الإسلامية حتى لا يقع تحت طائلة هذا الحديث، " واتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا" [التغابن16].
***
تمت بيعة العقبة الأولى، وأرسل النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع وفد الأنصار ـ سفيرًا وداعيًا ومعلمًا؛ هو مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ فمكث فيهم نحو عام؛ فلم يترك بيتًا إلا دخله، ولم يترك تجمعًا إلا تصدى له، حتى أسلم على يديه معظم الأوس والخزرج، وجل زعمائهم أمثال : أسيد بن حضير وسعد بن معاذ .
نجح مُصْعَبٌ نجاحًا عريضًا، وقد قفل راجعًا إلى النبي بمكة قبيل موسم الحج من العام الثالث عشر للبعثة ـ يعني قبيل بيعة العقبة الكبرى ـ، وذلك ليرفع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الواقع الدعوي خلال عام من عقد بيعة العقبة الأولى .
وإنه لخيرُ نموذجٍ للداعية المتجرد .. مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ الذي ترك حياة الترف والنعيم، وترك بيته الفاخر في مكة، وترك أهله أصحاب الشرف والسيادة ... ترك كل هذا، متجردًا منقطعًا لله رب العالمين، ثم هو يذهب إلى المدينة داعيًا ومعلمًا، يدور على البيوت، يدعو، ويعلم، وينشر الإسلام، حتى هدى اللهُ على يديه خلق كثير . ثم هو يموت شهيدًا في معركة أحد فقيرًا " فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ" .
توصيات عملية :
1ـ مطالعة سير أصحاب العقبة الأولى في كتب السير والتراجم، مثل كتاب" أُسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير، وكتاب " صور من حياة الصحابة " لعبدالرحمن رأفت الباشا.
2ـ مدارسة سورة الزخرف، قراءةً وتجويدًا وتفسيرًا؛ تلك التي قرأها مصعب على سعد بن معاذ فأسلم.
3ـ اكتب بحثًا علميًا أو رقة بحثية عن رحلة مصعب الدعوية في المدينة والتي استغرقت عامًا واحدًا؛ وأتت بنتائج عظيمة جليلة؛ فهي تجربة دعوية جديرة بالدارسة والتأمل.
4ـ المشاركة في حملة دعوية لإصلاح المجتمع، مثل حملة غرس الفضيلة، وحملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحملات : الإيجابية، والحجاب، تيسير الزواج، نشر قيمة العدل.. سَلْ بعض الدعاة المخلصين القريبين منك عن هذه المشاريع الدعوية.
4ـ اقرأ في فقه البيعة والخلافة من الكتب السُّنية المعتمدة، راجع مثلاً : [أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري، الشهير بالماوردي: الأحكام السلطانية]، و[ أحمد بن عبد الله القلقشندي : مآثر الإنافة في معالم الخلافة ]، و[ عبد الحي الكتاني :نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدراية]، [محمد رشيد رضا : الخلافة ]، و[عبد الرزاق أحمد السنهوري: فقه الخلافة].
------------------------
[1] أخرجه البخاري (3603)
[2] أخرجه أحمد (45 / 65)، وهو في السلسلة الصحيحة( 179)
[3] أخرجه مسلم ( 3437)
[4] أخرجه مسلم (3971)
[5] أخرجه البخاري ( 3223)
[6] أخرجه مسلم ( 4734)
[7] أخرجه مسلم (3441)