البحث
صناعة الشبهات
3767
2011/07/21
2024/12/21
صناعة الشبهات
صناعة الشُبهة، أو اختلاق الفِرْية، أو إنشاء الشائعة، ـ هو ابتكار فكرة باطلة تتحد حولها الآراء .
فإذا ما نطق شخصٌ وقال كذبًا : إنّ الداعية الفلاني يدخن السجائر مثلاً، ثم تلقف هذه الكذبة شخصٌ آخر ساذج، ثم نقلها الساذج إلى الآخرين على سبيل الخبر المشكوك فيه، ثم نقلها الآخرون إلى غيرهم على سبيل الخبر الـمُرجّح صحته، ثم ينتقل الخبرُ هنا وهناك وقد صار حقيقة لا مراء فيها، وهكذا تظل الشائعةُ تنتقل من الألسن إلى الآذن حتى تصل إلى صاحبنا الذي أطلقها وأنشأها؛ فيصدقها ويقع في نفس الفخ وهو لا يدري .. وذلك لسببٍ وحيد : أن الجميع يرددها !
***
بالضبط، كما ترى بعض الصحفيين الأفاكين حينما يرددون الخبر الكاذب، ويصدقونه لكثرة ترداه !
بالضبط، كما الطفل الذي يسرق قلم زميله، فلا يزال السارق يُقْسمُ أن القلم قلمه، ويقسم ويقسم ويقسم .. حتى يعتقد أن القلم قلمه، ولو تذكر الحادثة بعد سنوات يظن أن القصة قصة قلمه الذي حاول زميله أن يختلسه منه !
***
انظر هذه ..
اجتمع نفرٌ من قريش حول الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ ذَا سِنّيهِمْ وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ فَقَالَ لَهُمْ : يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ [ يعني موسم الحج ] وَإِنّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، ولا تَخْتَلِفُوا، فَيُكَذّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَيَرُدّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا ؛ قَالُوا : فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ . قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعْ .
قَالُوا : نَقُولُ كَاهِنٌ .
قَالَ : لا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهّانَ، فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ، ولاسَجْعِهِ.
قَالُوا : فَنَقُولُ مَجْنُونٌ .
قَالَ : مَا هُوَ بِمَجْنُونِ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ، فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ، وَلا تَخَالُجِهِ وَلا وَسْوَسَتِهِ.
قَالُوا : فَنَقُولُ شَاعِرٌ.
قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرِ، لَقَدْ عَرَفْنَا الشّعْرَ كُلّهُ : رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ، وَقَرِيضَهُ، وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، فَمَا هُوَ بِالشّعْرِ .
قَالُوا : فَنَقُولُ سَاحِرٌ .
قَالَ : مَا هُوَ بِسَاحِرِ، لَقَدْ رَأَيْنَا السّحّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ، ولا عَقْدِهِمْ. قَالُوا : فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ؟
قَالَ : وَاَللّهِ إنّ لِقَوْلِهِ لَحَلاوَةً ، وَإِنّ أَصْلَهُ لَعَذِقٌ، وَإِنّ فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ، وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا؛ إلا عُرِفَ أَنّهُ بَاطِلٌ، وَإِنّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لأنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ؛ يُفَرّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ .
فَتُفَرّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ؛ لا يَمُرّ بِهِمْ أَحَدٌ إلا حَذّرُوهُ إيّاهُ، وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ:
" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) .." [ المدثر][1] .
***
هكذا نرى اجتماع أبواق الباطل على فِرية معينة تلوكها الألسنة، وتجتمع حولها الآراء، وينطق بها الجميع من هنا وهناك .
تأمل ذلك في قول هذا الرجل الداهية : " فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، ولا تَخْتَلِفُوا، فَيُكَذّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا " .
ثم تأمل كيف اتحدت قوى الشر في المشرق والمغرب على مصطلح واحد ـ هو مصطلح الإرهاب ـ تصفُ به الإسلاميين على اختلاف مذاهبهم .
فترى أمريكا تقول : نحن نحارب الإرهاب، وترى الكيان الصهيوني يقول : نحن نحارب الإرهاب، وترى الأنظمة العربية والمتحكمين يقولون : نحن نحارب الإرهاب. وتردد البَبْغَاوَاتُ من خلفهم : نحن نحارب الإرهاب، نحارب الإرهاب، الإرهاب . إرهاب، إرهاب، إرهاب !!
حتى ترى كثيرًا من الكتاب والمثقفين والفنانين العرب يرددون ذلك كصدى الصوتِ الذي يجيب صوت المُنادي، وأكثرهم لا يفقهون أن مصطلح الإرهاب يقصد به المسلمون عامة، والحركيون خاصة، والجهاديون على وجه الأخص . ومسألة القضاء عليهم جميعًا مسألة أولويات؛ فالأولى القضاء على المقاتلين، ثم الحركيين، ثم عامة المسلمين، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
وهكذا اتفقت قوى الشر على حملة التضليل؛ فقعدوا بسبل الناس، واعتلوا منابر الإعلام المختلفة، وشرعوا في بث دعاية الكذب والبهتان لصد الناس عن الداعية، لا يَمُرّ بِهِمْ أَحَدٌ إلا حَذّرُوهُ إيّاهُ، ولا تمر بهم فرصة إلا انتهزوها في نفث سمومهم، ولا تصيبهم قارعة أو مصيبة إلا ألصقوها بالدعوة والداعية، حالهم كحال الفراعنة الذين قالوا لموسى ـ عليه السلام ـ :
" اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ، قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ، بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ " [النمل47].
***
وعجبًا لهؤلاء المبطلين يبذلون جهدًا كبيرًا في انتاج الشائعات، وقد رأيتَ كيف دخلوا على أسن رجل في قريش وبحثوا أنسب الشائعات، ففَكَّرَ وَقَدَّرَ، ثم فكر وقَدَّرَ، ثم فكر قَدَّرَ ، وكل ذلك للوصول إلى فرية محكمة، ثم نظر وتأمل؛ فالأمر جد صعب مع صاحب الخلق العظيم، ثم عبس؛ فهم يواجهون دعوة صادقة، ثم بسر؛ فقد أعيتهم الحيل، ثم رجعوا إلى أنسب الحلول المقترحة على فسادها، ومع علمهم بفسالتها وهشاشتها، فقالوا : إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ . المهم أن تتفق الكلمة على مصلطح محدد.
هذا يبين لك جَلَد الفاجر في فجره، وحماسة الباطل في باطله، وكيف يمكر بدعوة الله الماكرون، ويبيتوت يترصدون لها أنجع الطرق لمحاربتها، فضلاً عن انتظار طامة أو مصيبة خارجية قد تقضي ـ بزعمهم ـ على الدعوة والداعية: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ }[الطور30].
***
ليعلم الدعاةُ، أن سهام الباطل لا تستهدف سوى الدعوة الصادقة الناجحة؛ خاصة ما إذا كان لها حضورٌ بين الناس، فالظالمون لا يستهدفون الدعوات النائمة أو المذاهب التي عفا عليها الزمن، إنما يستهدفون الجماعات الحية العاملة، كما السرطان يستهدف الخلايا الحية.
وهذه الافتراءات والشبهات والشائعات لن تضر الصادقين إلا أذىً؛ إنما وليهم الله الذي تكفل بحفظ دعوتهم، وإن تحولوا هم عنها إلى غيرها وصاروا حربة عليها . إنما تحوم الافتراءات حول حمى الدعوة ومنهجها؛ تسعى حثيثًا أن تجد ثغرة تجعل منها جيبًا، ثم تجعل من الجيب فِرقة، ثم من الفرقة جماعة تحارب الجماعة، ثم ينقضُّ الباطلُ على الجميع بعدما أثخنتهم جراح الطعن والتجريح .
ولما كانت الفرية تحوم حول الدعوة كالطيور الجارحة الجائعة؛ كان على أهل الدعوة أن يحكموا بناء أخوتهم، وأن يوثقوا عرى جماعتهم، وأن يثقلوا جدار الدعوة بالحصن تلو الحصن، من برامج تربوية، ودورات علمية شرعية، وندوات فكرية تحصينية .
فإذا تحصنت الدعوة حق التحصين؛ فعليها أن تبارد إذًا بزعزعة الباطل ومذاهبه ورجاله، وأن يبادر المؤمنون الواثقون بفضح مخططات المذاهب المعادية؛ لينشغل أهل الباطل بأنفسهم، ولينشغلوا عن أعراض المؤمنين .
وماذا علينا لو كنا دومًا أصحاب المبادرة في تسديد الضربات المختلفة لهم، وإلى متى نقف موقف المدافع الذي يستجيب لأقل فعل برد فعل ثم يخمد ؟
فإذا ما هم جمعوا رأيهم فيكم، فاجمعوا رأيكم فيهم، وبادروا أنتم واستبقوهم، واقعدوا أنتم بسبل الناس، بلغوهم دعوتكم، وحصنوهم من أفكار عدوكم.
***
لن تسلم الدعواتَ الناجحة من الوشاة والحاسدين.
لا تعبء بكثرة الشائعات ما دام المنهج أصيلاً سليمًا .
أنت الأعلى دومًا إذا احتوشك صناديد الباطل .
***
نزهوا دعوتكم عن الدناآت واربأوا بأنفسكم عن السعاية والغيبة والنميمة ولا تخلطوها بحديثكم عن أصحاب المذاهب الهدامة، وفرقوا بين فضح المخططات وكشف العورات .
وتذكر دومًا قول الله تعالى :
" يَا أيُّهَا الناسُ إِنَمَا بَغْيًكُمْ على أنْفُسِكم " . وقال عزَ وجل: " ثَم بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنًهُ الله".
وقول الشاعر :
فلا تسبق إلى أحدٍ بِبَغْيٍ ... فإِنَّ البَغْي مَصرعه وخيم
توصيات عملية :
1ـ مدارسة حول كتاب بروتوكلات حكماء صهيون.
2ـ التعرف على جهود بعض المستشرقين في اختلاق افتراءات جديدة ومستحدثة حول الإسلام، طالع على سبيل المثال كتاب "افتراءات المستشرقين على الاسلام" للدكتور عبد العظيم المطعني.
3ـ ادعو بعض أصدقائك إلى حفلة شاي؛ تناقش فيها بعض الشبهات العالقة والمسائل المغلوطة؛ فتصحح لهم ما أُشكل عليهم، وتشرح لهم ما استحكم، وتبين لهم ما استغلق.
----------------------
[1] انظر : ابن هشام 1/271