البحث
دستور الدولة
7705
2011/09/18
2024/11/15
دستور الدولة
في الفترة ما بين أغسطس 622 ويونيو 624م، بعد الهجرة وقبل معركة [ 2 هـ]، كتب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وثيقة ً ـ أو بمعنى عصري دستورًا ـ لدولة المسلمين بالمدينة، تضمن هذا الدستور على نيِّفٍ وأربعين بندًا، غالبها في تنظيم الشأن الداخلي للأمة الإسلامية، واشتملت على بنودٍ تُقنن العلاقات بين جميع طوائف وفصائل المجتمع المدني؛ مهاجرين وأنصارًا، ويهودًا ووثنيين، وقد نصت هذه البنود بشكل صريح في ضرورة تكاتف جميع الفصائل والطوائف في صد وردع أي عدوان على المدينة المنورة، كما أكدت على أُسسٍ غاية في الأهمية ـ لأي دولة ناشئة ـ؛ فأكدت على أن الحاكمية لله ورسوله، وأن المرجعية لله ورسوله، وأن المسلمين أمة واحدة من دون الناس، وأكدت على ضرورة إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح، الأخوة، والقسط، والعدل، والتكافل الاجتماعي على مستوى الأسرة والقبيلة والدولة، كما نصت على حُرمة المدينة المنورة، وحُرمة الاتصال بقريش ومعاونتهم، وحُرمة الغدر والخيانة والخروج على الجماعة . وقد درسها المستشرق الروماني جيورجيو ( المولود عام 1916)، فأُعجب بها أيما إعجاب، وكتب عنها كلمة سائرة في كتابه "نظرة جديدة في سيرة رسول الله" ـ الذي ترجمه الدكتور محمد التونجي [ ص 192] ـ ، فقال :
"وقد حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً ، كلها من رأي رسول الله . خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى ، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان . وقد دون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم ، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء . وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م . ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده ".
***
وقد بذل العلامة الأستاذ محمد حميد الله جهدًا مشكورًا في تحقيق وثيقة المدينة هذه، ورتبها وضبطها وأوردها في كتابه مجموعة الوثائق السياسية بشكل لفت عناية الباحثين إلى ضرورة الاهتمام بهذه الوثيقة التي يعتبرها البعض مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية .
كما كُتبت عدة دراسات وبحوث في هذه الوثيقة، تعرض لمجموعة القيم القانونية والحضارية التي حازت وثيقة المدينة قصب السبق فيها.
وإليك، قارئي، هذه الإشارات السريعة على بعض بنود هذه الوثيقة التارخية:
الأطراف المعنية
"هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب) ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم."[1] .
المسلمون أُمة
"إنهم أمة واحدة من دون الناس."[2] .
المرجعية في الحكم إلى الشريعة الإسلامية :
"وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ"[3].
"وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ "[4] .
التكافل الاجتماعي
"المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
" وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
"وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف.
"وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
"وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
"وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
"وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
"بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
"وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين."[5] .
الموساة بين المسلمين
" وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ[6] أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ"[7] .
حماية أهل الذمة
"وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالأسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ"[8] .
وهو أصل في رعاية أهل الذمة، والمعاهدين، و الأقليات غير الإسلامية التي تخضع لسيادة الدولة الإسلامية .. فلهم حق النصرة على من رامهم أو اعتدى عليهم بغير حق سواء من المسلمين أو من غير المسلمين، من داخل الدولة أو من خارجها .
المساواة بين الأقليات
"وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
" وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
"وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
"وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
"وإن ليهود بن جشم مثل ما ليهود بني عوف .
"وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
"وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته"[9].
حُرمة المدينة شرفها الله :
"وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة"[10].
حُسن الجوار :
"وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم."[11]
احترام أمان المسلم :
"وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس."[12].
فلأي مسلم الحق في منح الأمان لأي إنسان، ومن ثم يجب على الأطراف أن تحترم هذا الأمان، وأن تجير من أجار المسلمُ، ولو كان المجير أحقرهم.
فيُجير على المسلمين أدناهم، بما في ذلك النساء، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم هانئ: " أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ "[13] .
الأمن الاجتماعي وضمان الديات :
"وَإِنّهُ مَنْ اعْتَبَطَ [ أي قتل ] مُؤْمِنًا قَتْلاً عَنْ بَيّنَةٍ فَإِنّهُ قَوَدٌ بِهِ إلا أَنْ يَرْضَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ ( بالعقل )، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافّةٌ، وَلا يَحِلّ لَهُمْ إلا قِيَامٌ عَلَيْهِ"[14] .
وبهذا أقر الدستورُ الأمنَ الاجتماعي، وضمنه بضمان الديات لأهل القتيل، وفي ذلك إبطال لعادة الثأر الجاهلية ، وبين النص أن على المسلمين أن يكونوا جميعًا ضد المعتدي الظالم حتى يحكم عليه بحكم الشريعة ..
الدعم المالي للدفاع عن الدولة مسؤلية الجميع :
"وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. "[15] .
فعلى كل الفصائل بما فيها اليهود أن يدعموا الجيش ماليًا وبالعدة والعتاد من أجل الدفاع عن الدولة، فكما أن المدينة وطن لكل الفصائل، كان على هذه الفصائل أن تشترك جميعها في تحمل جميع الأعباء المالية للحرب.
الاستقلال المالي لكل طائفة :
"وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم"[16] .
فمع وجوب التعاون المالي بينجميع طوائف الدولة لرد أي عدوان خارجي، فإنلكل طائفة استقلالها المالي عن غيرها من الطوائف.
التضامن ضد الخائنين
"وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ، أَوْ إثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ"[17] .
وجوب الدفاع المشترك ضد أي عدوان :
"وإن بينهم النصر على من دهم يثرب. "[18]
"وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة"[19] .
وفي هذا النص دليل صريح على وجوب الدفاع المشترك، ضد أي عدوان على مبادىء هذه الوثيقة .
وبموجب هذا النص حُكم بالإعدام على مجرمي قريظة – بعد معركة الأحزاب (في ذي القعدة 5 هـ/إبريل 627 م) - ، لما تحالفوا مع جيوش الأحزاب الغازية للمدينة، وبغوا وخانوا بقية الفصائل، رغم أنهم أبناء وطن واحد !
النصح والبر بين المسلمين واليهود :
وجاء في هذا الأصل :
"وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم "[20]
فالأصل في العلاقة بين جميع طوائف الدولة – مهما اختلفت معتقداتهم– هوالنصح المتبادل، والنصيحة التي تنفع البلادوالعباد، والبر والخير والصلة بين هذهالطوائف.
حرية كل فصيل في عقد الأحلاف التي لا تضر الدولة
"وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه"[21]
وجوب نصرة المظلوم :
"وإن النصر للمظلوم. "[22]
تحريم التعاون مع الإعداء ضد المسلمين :
"وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها"[23] .
حق الأمن لكل مواطن :
" إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول ."[24] .
حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر مكفولة لكل فصائل الشعب:
"وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يُوتغ [ أي يهلك] إلا نفسه وأهل بيته. "[25] .
توصية عملية :
اكتب مقالة حول أهم المبادىء والأسس التي تناولها الدستور الإسلامي بالمدينة والمنورة.
--------------------
[1] ابن هشام 1/501
[2] ابن هشام 1/501
[3] ابن هشام 1/502
[4] ابن هشام 1/503
[5] ابن هشام 1/501
[6]والمفرح هو المثقل بالدين والكثير العيال
[7] ابن هشام 1/501
[8] ابن هشام 1/504
[9] ابن هشام 1/501
[10] ابن هشام 1/501
[11] ابن هشام 1/501
[12] ابن هشام 1/501
[13] أخرجه البخاري ( 344)
[14] ابن هشام 1/503
[15] ابن هشام 1/503
[16] ابن هشام 1/503
[17] ابن هشام 1/503
[18] ابن هشام 1/503
[19] ابن هشام 1/503
[20] ابن هشام 1/503
[21] ابن هشام 1/503
[22] ابن هشام 1/503
[23] ابن هشام 1/503
[24] ابن هشام 1/503
[25] ابن هشام 1/503