1. المقالات
  2. السيرة النبوية صور تربوية وتطبيقات عملية - محمد مسعد ياقوت
  3. عند جبل أُحد وضوح المهام والتعليمات

عند جبل أُحد وضوح المهام والتعليمات

 

عند جبل أُحد
 
وضوح المهام والتعليمات
 
 لما نزل الجيش الإسلامي أرض المعركة، اختار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لجيشه خمسين رجلاً راميًا، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، وهو مُعلَم يومئذ بثوب أبيض، وقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تعليمات واضحة وتنبيهات بيّنة: " انْضَحْ الْخَيْلَ عَنّا بِالنّبْلِ، لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا ، إنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا؛  فَاثْبُتْ مَكَانَك لا نُؤْتَيَنّ مِنْ قِبَلِكِ "[1] .
 
فمن الآداب النبوية في ميدان الجهاد أن يقوم القائدُ بتوضيح المهام لجنودهغاية التوضيح وغاية التبيين، ويؤكد عليها من حين إلى آخر على مسامع الجند، وذلك حتى لا ينسى الغافل، ولا يتعلل الفاشل، ولا يتشوش الأمر على الساهي.
 
فنراه – صلى الله عليه وسلم – يؤكد تعليماته هذه على الرماه بقوله :
 
"إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ "[2] .
 
 
 
وأكد الأمر مرارًا وتكرارًا  بقوله :
 
 "الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا، وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم"[3] !
 
إن القائد الإسلامي لا يكل ولا يمل من تذكير جنده بمواطن الثلمات، فهو ببصيرته الإيمانية وبخبرتيه الحربية، يعرف ثغرات الجيوش، ومن أين تُأتى الأوطان .
 
 
 
حسن اختيار الموقع
 
ونرى حصافة القائد في حُسن اختيار موقع النزول بجيشه في أرض المعركة، حيث وَظف جبل الرماة ( وهو جبل عينين ) في حماية ظهر الجيش .
 
كما أن المسلمين كانوا مشاة بينما يتفوق المشركون عليهم بسلاح الفرسان بقوة مائتي فارس،هم في مقدمة الجيش الوثني .. فأراد الرسول – صلى الله عليه وسلم – تخفيف حدة هذه القوة، فكانت فكرة الرماة لدفع الخيل، ولمنع الالتفاف حول الجيش ، ثم اختار النبي – صلى الله عليه وسلم – مساحة ضيقة من جبل أحد بحيث يمنع الجيشَ الوثني من الهجوم بكامل قوته أو الدخول بكامل واجهة الجيش.
 
إذنْ تمكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – من إحداث التعادل مع خصمه في ميزان القوة العسكرية  بهاتين الطريقتين : الأولى، كتيبة الرماة، والثانية، النزول بالجيش في الشعِب من موضع جبل أحد في عدوة الوادي، وقد جعل من ظهر الجيش جبل أُحد .
 
 
 
عدم القتال إلا بإذن القائد :
 
ولما اقتربت ساعة الصفر، قالالنبي – صلى الله عليه وسلم - :" لا يُقَاتِلُنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ حَتّى نَأْمُرُهُ بِالْقِتَالِ "[4].
 
فلابد من توحيد القيادة، واحترام القائد، والسمع له والطاعة .  ثم إن التهور في المبادءة يترتب عليه ضرر كبير يلحق بالجيش كله، فيُهلك المرء نفسه وجماعته، ويسيء لنفسه ولدعوته، وتهتز صورته وهيبة قائده . وسوء الاستماك خير من حسن الصرعة . وليس الحذر يقي من القدر فكيف التهور !
 
 
 
حسن النظام والتنظيم:
 
إن من أشد الأسلحة التي ترهب العدو؛ النظام، ودقة الصفوف، وجمال التنسيق.. فقد جَعَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ في أرض المعركة، يُسَوّي الصّفُوفَ، وَيُبَوّئُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ، يَقُولُ : "تَقَدّمْ يَا فُلانٌ وَتَأَخّرْ يَا فُلانٌ... " حَتّى إنّهُ لَيَرَى مَنْكِبَ الرّجُلِ خَارِجًا فَيُؤَخّرُهُ، فَهُوَ يُقَوّمُهُمْ كَأَنّمَا يُقَوّمُ بِهِمْ الْقِدَاحَ ! حَتّى إذَا اسْتَوَتْ الصّفُوفُ، سَأَلَ مَنْ يَحْمِلُ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ ؟ قِيلَ بَنُو عَبْدِ الدّارِ. قَالَ نَحْنُ أَحَقّ بِالْوَفَاءِ مِنْهُمْ . أَيْنَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ؟ قَالَ هَا أَنَا ذَا ! قَالَ : " خُذْ اللّوَاءَ "،  فَأَخَذَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، فَتَقَدّمَ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ -  صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- [5].
 
وقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بتقسيم الجيش إلى ثلاث كتائب، هي:
 
1- كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير - رضي الله عنه -.
 
2- كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر - رضي الله عنه-.
 
 3- كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطى لواءها أسيد بن حضير - رضي الله عنه.
 
 
 
أهمية التوجيهات الأخلاقية والإيمانية قبل المعركة :
 
إن العرف في الحروب القذرة، هو تشجيع الجنود على السلب والنهب وهتك الأعراض وسفك الدماء، بلا رحمة أو مراعاة لطفل أو امرأة أو شيخ .. نلحظ ذلك في حروب الماضي والحاضر، وخير شاهد على الماضي تلك الحروب الصليبية التي أوصت بقتل الأطفال والشيوخ والنساء بل قتل الحجاج والنساك، أما الحاضر، فليست حروب الصهاينة في فلسطين منا ببعيد، حيث هدم المنازل ، وتجريف المزارع، وضرب المساجد، وقتل الأطفال، وأَسر النساء . أما الأمريكان، فقد بلغوا مبلغًا شنيعًا في الحروب القذرة، واستحدثوا الأساليب والوسائل في تعذيب الأبرياء، وهتك أعرض النساء، وبلغوا في ذلك مبلغًا لم يبلغه أحد من قبلهم . ويقول بعض المحللين إن الأمريكان اركتبوا جرائم ضد الإنسانية في عام واحد فقط تفوق في حجمها وبشاعتها ما ارتكبته دول ودكتاتوريات في قرون . ولقد كانت قيادة الجيش الأمريكي في العرق تقوم من حين إلى آخر بتوزيع منشورات على جنودها تحثهم فيها على القتل والاغتصاب وإذلال الشعب العراقي بشتى الصور، ونَقلَ بعض الصحفيين لوسائل الإعلام نماذجَ من هذه المنشورات التي كانت تحت عنوان : " كل  العراقيين إرهابيون " .
 
 أما في أصول الحرب عند نبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم – نجد أنه  لما صف الصفوففي أحد قبل المعركة ، قَامَ فَخَطَبَ الجيش، وأوصى الجيش بالتقوى وجملة من فضائل الأخلاقفَقَالَ :
 
 
 
" يَا أَيّهَا النّاسُ ! أُوصِيكُمْ بِمَا أَوْصَانِي اللّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَالتّنَاهِي عَنْ مَحَارِمِهِ . ثُمّ إنّكُمْ الْيَوْمَ بِمَنْزِلِ أَجْرٍ وَذُخْرٍ، لِمَنْ ذَكَرَ الّذِي عَلَيْهِ، ثُمّ وَطّنَ نَفْسَهُ لَهُ عَلَى الصّبْرِ وَالْيَقِينِ وَالْجِدّ وَالنّشَاطِ، فَإِنّ جِهَادَ الْعَدُوّ شَدِيدٌ؛ شَدِيدٌ كَرْبُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَصْبِرُ عَلَيْهِ - إلا مَنْ عَزَمَ اللّهُ رُشْدَهُ - فَإِنّ اللّهَ مَعَ مَنْ أَطَاعَهُ، وَإِنّ الشّيْطَانَ مَعَ مَنْ عَصَاهُ، فَافْتَتِحُوا أَعْمَالَكُمْ بِالصّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ وَالْتَمِسُوا بِذَلِكَ مَا وَعَدَكُمْ اللّهُ، وَعَلَيْكُمْ بِاَلّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ فَإِنّي حَرِيصٌ عَلَى رُشْدِكُمْ، فَإِنّ الإخْتِلافَ وَالتّنَازُعَ وَالتّثْبِيطَ مِنْ أَمْرِ الْعَجْزِ وَالضّعْفِ، مِمّا لا يُحِبّ اللّهُ، وَلا يُعْطِي عَلَيْهِ النّصْرَ وَلا الظّفَرَ .
 
 " يَا أَيّهَا النّاسُ ! جُدّدَ فِي صَدْرِي[6] أَنّ مَنْ كَانَ عَلَى حَرَامٍ فَرّقَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَمَنْ رَغِبَ لَهُ عَنْهُ غَفَرَ اللّهُ ذَنْبَهُ، وَمَنْ صَلّى عَلَيّ، صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ عَشْرًا ، وَمَنْ أَحْسَنَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ أَوْ آجِلِ آخِرَتِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلا صَبِيّا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَرِيضًا أَوْ عَبْدًا مَمْلُوكًا ، وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا اسْتَغْنَى اللّهُ عَنْهُ، وَاَللّهُ غَنِيّ حَمِيدٌ .
 
"مَا أَعْلَمُ مِنْ عَمَلٍ يُقَرّبُكُمْ إلَى اللّهِ إلا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلا أَعْلَمُ مِنْ عَمَلٍ يُقَرّبُكُمْ إلَى النّارِ إلا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ . وَإِنّهُ قَدْ نَفَثَ فِي رُوعِي الرّوحُ الأمِينُ أَنّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَوْفِيَ أَقْصَى رِزْقِهَا ، لا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا . فَاتّقُوا اللّهَ رَبّكُمْ وَأَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الرّزْقِ، وَلا يَحْمِلَنكُمْ اسْتِبْطَاؤُهُ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ رَبّكُمْ، فَإِنّهُ لا يُقْدَرُ عَلَى مَا عِنْدَهُ إلا بِطَاعَتِهِ . قَدْ بَيّنَ لَكُمْ الْحَلالَ وَالْحَرَامَ غَيْرَ أَنّ بَيْنَهُمَا شَبَهًا مِنْ الأمْرِ لَمْ يَعْلَمْهَا كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ إلا مَنْ عَصَمَ، فَمَنْ تَرَكَهَا حَفِظَ عِرْضَهُ وَدِينَهُ، وَمَنْ وَقَعَ فِيهَا كَانَ كَالرّاعِي إلَى جَنْبِ الْحِمَى أَوْشَكَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ . وَلَيْسَ مَلِكٌ إلا وَلَهُ حِمًى ، ألا ! وَإِنّ حِمَى اللّهِ مَحَارِمُهُ . وَالْمُؤْمِنُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَالرّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى تَدَاعَى عَلَيْهِ سَائِرُ الْجَسَدِ . وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ "[7].
 
ويستفاد من هذه الخطبة عدة دروس منها:
 
1- خطورة المعاصي والكبائر على الجيش
 
2- أهمية الجد والنشاط في ساحة الحرب  
 
2- ضرورة  الصبر والمثابرة عند القتال.
 
3- خطر الاختلاف والتنازع على الجيش.
 
4- أهمية الأخوة الحب في الله بين الجنود .
 
6- أهمية عقيدة القضاء والقدر في وجدان الجنود .
 
7- ضرورة المحافظة على الذكر والأوراد والصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم –
 
8- ضرورة الابتاعد الشبهات .
 
 
 
تشجيع الجنود
 
وأخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُشجع المؤمنين، فرفع سيفًا،  وقال :
 
"مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السّيْفَ بِحَقّهِ ؟  " !
 
فَقَامَ إلَيْهِ رِجَالٌ فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ، حَتّى قَامَ إلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، فَقَالَ : وَمَا حَقّهُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟
 
 قَالَ : "أَنْ تضْرَبَ بِهِ الْعَدُوّ حَتّى يَنْحَنِيَ "  !!
 
قَالَ :  أَنَا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ بِحَقّهِ .
 
فَأَعْطَاهُ إيّاهُ وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ ، رَجُلاً ، شُجَاعًا، يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ،  وَكَانَ إذَا أَعُلِمَ بِعِصَابَةِ لَهُ حَمْرَاءَ ، فَاعْتَصَبَ بِهَا؛ عَلِمَ النّاسُ أَنّهُ سَيُقَاتِلُ، فَلَمّا أَخَذَ السّيْفَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَخْرَجَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، وَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصّفّيْنِ . فقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ - : "  إنّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللّهُ إلا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ "[8].
 
 
 
وهو درس في أهمية التشجيع والتحريض، وحث الناس، ودفعهم دفعًا، نحو الجهاد، بإلهاب مشاعرهم، وتحريك ضمائرهم، وشحذ هممهم .
 
وهنا تراه رفع سيفًا كريمًا، وفتح باب السباق، وأعلن جولة المنافسة، وقال يهتف بهم : "مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السّيْفَ بِحَقّهِ ؟  " !
 
وكلما قام أحدهم يبغي أن ينال شرف استلام السيف من يد خاتم النبيين، سرعان ما يأمره النبي –  صلى الله عليه وسلم – بالجلوس، ولا زال يردد مرارًا: "مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السّيْفَ بِحَقّهِ ؟  " !  حتى أيقظ النفوس، وطرق القلوب، فاقشعرت الجلود لنداء محمد، حتى قام الفارس المُعَلَم " سماك " فأخذ السيف بحقه، فأخذ هذا الفارس ينتشي، مزهوًا بشجاعته، مغتبطًا بتلك المكرمة، متبخترًا بين الإخوان، يمشي في تكبر وإباء، وعزة وفخار، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موضحًا - : "  إنّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللّهُ إلا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ "، ليبين للشباب المسلم أن هذا هو ميدان التفاخر، وأن هذا هو ميدان التسميع، وأن هذا هو ميدان الشهرة والكبر، ليس ميدان الأزياء والأموال والنساء والأحساب !
 
 
 
أخلاقيات المبارزة :
 
ولما ترآى الجمعان، صاح طلحة بن عثمان، صاحب لواء المشركين، قائًلا: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجِّلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجِّلكم بسيوفنا إلى الجنة! فهل منكم أحد يعجِّله الله بسيفي إلى الجنة! أو يعجِّلني بسيفه إلى النار؟ فقام إليه علي بن أبي طالب، فقال: والذي نفسي بيده، لا أفارقك حتى يعجِّلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجِّلني بسيفك إلى الجنة! فضربه علي فقطع رجلَه، فسقط، فانكشفت عورته، فقال: أنشدك الله والرحم، ابنَ عم! فتركه.
 
فكبّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وقيل لعليّ: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال: إنّ ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته، فاستحييت منه [9].
 
 
 
ثمة مشهد نقف أمامه يعد من مفاخر السيرة العسكرية في العهد النبوي، ذلك العهد الذي تخرج فيه من مدرسة محمد – صلى الله عليه وسلم -أمثال هؤلاء الرجال الأبطال، الذين يقاتلون من أجل راية الله لا من أجل مجد شخصي أو منصب أو جاه، وهم مع ذلك يعلون من القيم الأخلاقية والشهامة حتى في أثناء طاحونة الحرب ودوامة المعركة . لا ينسون " الأخلاق" حتى في أشد اللحظات. وذلك بلا شك يبين طبيعة النبت الذي ينمو ويربو في بيئة إسلامية تُعلي مكارم الإخلاق تحت قيادة نبي بُعث ليتممها !
 
 
 
والمجاهد في سبيل الله مع ما يتصف به من ركانة الصرامة، واستجماع القوة، ترى فيه غلوب الشهامة . والرجل الشهم هو السَّيِّدُ الكريم النَّجْدُ النافذُ في الأُمور..
 
والفارس المسلم الذي تفرست في مخايله الشجاعة، وتمخضت عن سلوكه الشهامة،  هو قائدٌ قد استكمل بين جنبيه الفدائية الإسلامية، وحقيق أن يُمنح لقب " مجاهد "  
 
قال الشاعر يمدح من توفرت فيه الخصلتين :
 
له هممٌ تعلو السحائب رفعةً ... وكم جاد منها بالنفائس والنفس!
 
 
 
الهزيمةُ فيدبر المعصية ومخالفة الجندي لقائده:
 
وبدأ القتال، واسبتسل المسلمون، وصبروا ، وكان شعارهم : " أمت، أمت "، وضربوا روائع الأمثلة في البطولة والشجاعة، فصدقهم الله وعده، وحَسّوا بسيوفهم رقاب المشركين، وحصدوا بميامنهم أرواح المجرمين، وقد وصف الله تعالى هذه الجولة الأولى بقولة :
 
"وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " [آل عمران:152].
 
 
 
ولما بدأ الجيش الوثني في الفرار، وبدأ المسلمون في جمع الغنيمة، أراد الرماة أن ينزلوا إلى ساحة المعركة لجمع نصيبهم،  فقال أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ  : الْغَنِيمَةَ!... ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ ؟ ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ قَالُوا : وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ[10] !
 
 
 
 ثم غادر أربعون رجلاً ـ أو أكثر ـ مواقعهم من الجبل، والتحقوا بالجيش ليشاركوه في جمع الغنائم . وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ وحوالي تسعة من الرماة والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء .. وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد البقية المتبقية من جيش الرماة، ثم انقض خالد على المسلمين من خلفهم، فانقلبوا على المسلمين، وأُحيط المسلمون من الأمام والخلف، وتفرقت كلمتهم، وذهبت ريحهم، وأُشيع مقتل الرسول، والرَّسُولُ يدعوهم فِي أُخْرَاهُمْ ..
 
وانقسم المسلمون إلى خمس طوائف، طائفة قد أهمتهم أنفسهم وهم جماعة من المنافقين لم يرجعوا مع ابن سلول، وطائفة فرت - ولقد عفا الله عنهم-، وطائفة انسحبت إلى الخلف نحو وادي أُحد لإعادة بناء الجيش، وطائفة استمرت في مقاتلة الأعداء حتى  الموت، وطائفة أحدقت برسول الله – صلى الله عليه وسلم – تحرسه وتقاتل دونه .
 
ولم يبق مع النبي – صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، وحاول المشركون قتل النبي – صلى الله عليه وسلم، وأمطروه ضربًا، فشُجَّ وَجْهُهُ الشريف، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُه الكريمةُ، وَجُرِحَتْ وَجْنَتُهُ الطاهرة، وَجُرحت شَفَتُهُ السُّفْلَى مِنْ بَاطِنهَا، وَجُحِشَتْ رُكْبَتُهُ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
 
وقَتل المشركون من المسلمين سَبْعِينَ من أكارم الصحابة، وعلى رأسهم حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وسعد بن الربيع وحنظلة بن أبي عامر .
 
وأعمل المشركون الـمُثلة بجثث الشهداء، فبقروا البطون، وجدعوا الأنوف، وقطعوا الآذان.
 
وهكذا حدثت المصيبة .. والسبب :
 
1- مخالفة تعليمات القائد الأعلى ( النبي صلى الله عليه وسلم )
 
2- مخالفة تعليمات القائد المباشر ( عبد الله بن جبير رضي الله عنه )
 
3- عدم الصبر على السراء ( فلم يطيقوا الانتظار والغنائم تجمع أمام أعينهم )
 
4- الانشغال بالدنيا وغنائمها .
 
 
 
***
 
إن الدارس لهذه الغزوة يكاد لا يلوي على شيء حدث في هذه الغزوة سوى خبر شجّ وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – وكسر رباعيته، فضلاً عن تلك الضربات التي دفعته نحو الأرض، فلا رغبة للباحث في مدارسة المواقف الهامة التي حصلت بعد ذلك لاسيما بطولات الصحابة في هذا اليوم !
 
وكأني أردد قولة النبي – صلى الله عليه وسلم - حينئذ :
 
"كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ "[11] .
 
فما حدث للنبي – صلى الله عليه وسلم – من ضرب وجرح وقرح، أمر خطير جلل، وجد صعب، وأحرى بنا أن نقف نتأمل هذا المشهد الخطير . أن يُضرب النبي ويُصاب بسبب معصية المسلمين، أن يسقط رسول الله  - صلى الله عليه وسلم – بسبب مخالفة الرماة لأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
 
***
 
ولقد استُشهد جمعٌ من المسلمين في هذه الغزوة، وكانوا قد ظنوا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قد قُتل، وماتوا وهم يظنون ذلك ! وقد كان يهتف بعضهم – بعدما أُشيع مقتل النبي - : " ما تصنعون بالحياة بعده، موتوا على ما مات عليه رسول الله !"[12].. أي مرارة هذه التي في القلب ! وأي غصة تلك التي في الحَلق ! لقد كان بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبين القتل قاب قوسين أو أدنى؛ والسبب معصية المسلمين !
 
وأوشكت الأمة أن تخسر نبيها بسبب معصية جماعة منها ، ومن ثم تتجرع الندم سرمدًا ! فما أعمق هذا الدرس !
 
ولقد كان من قدر الله يُشاع ذلك، ليستوعب المسلمون درس التبعة، وأن بقاء الدعوة أهم من بقاء الداعي، وأن حياة الرسالة أولى من حياة الرسول، وأجدر بالجميع – وعلى رأسهم النبي - أن يضّحوا بالمهج من أجل الإسلام .
 
ومن ثم كان النداء القارع القارص :
 
" وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ " [آل عمران :144 ]
 
فلا خير في دعوة تموت بموت داعيها، ولا بقاء لجماعة ترتبط بالأشخاص والرجال أكثر من ارتباطها بالمنهج والأركان . 
 
***
 
إن معظم المسلمين لم يعصوا أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، بل العصيان جاء من جماعة لم يتجاوز عددهم خمسين رجلاً ، فمعصية الخاصة جلبت الهزيمة على العامة، وقد قال الله تعالى محذرًا : " وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " [ الأنفال: 25]
 
 فكم من معصية ارتكبها الخاصة فباء بشؤمها العامة ! بيد أن الله يبعث الناس على نياتهم.
 
***
 
إن التعلق بالدنيا أصل كل خطيئة، والركون إلى الدعة أُس كل هزيمة، والانشغال بالمال طريق الخزي في الدنيا والآخرة. ولقد رأينا السبب الأوحد الذي نزل الرماةُ من أجله تاركين الموضع الذي استخلفهم فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .
 
 لقد نزلوا من أجل الدنيا !
 
وأنزل الله : ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ) يعني الغنيمة ..
 
قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد: ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ )[13] .
 
وانظر إلى هذا الخذلان الذي أحدثته جماعة الرماة ضد إخوانهم الثابتين فوق الجبل، والمجاهدين تحت الجبل . والإخوان هم العدة عند الشدة .  وشر الإخوان من التمس منفعة نفسهِ بضُر أخيه، وأقبح الإخوان الواصل في الرخاء الخاذل عند الشدة .
 
***
 
وكوْن النبي – صلى الله عليه وسلم – يُصاب بما أُصيب به أصحابه من قرح، دلالة على أن نواميس الله لا تحابي أحدًا، وأن أسباب النصر إذا ما تحققت لقومٍ؛ ظفروا بالظفر وإن كانوا تحت قيادة الوثن، وأن أسباب الهزيمة إذا ما توفرت لفئة؛ بائوا بالهزيمة وإن كان فيهم نبي مرسل . 
 
" إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ " [آل عمران :160] .
 
فإن نصرْنا الله في أنفسنا نصَرَنا، وإن خذلناه خذلنا ..
 
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " [ محمد:7 ]
 
سبحانه، له مقاليد النصر وحده، يعز من يشاء ويذل من يشاء ..
 
" أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ، إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ"[الملك:20].
 
 
 
توصية عملية :
 
مدارسة آيات غزوة أحد في سورة آل عمران
 
------------------------------
 
[1] ابن هشام :2/65
 
[2] أخرجه البخاري :(  2812)
 
[3] الحلبية 2/496
 
[4] ابن هشام 2/65
 
[5] الواقدي 221
 
[6]قذف في قلبي
 
[7] الواقدي  222
 
[8] ابن هشام 2/66
 
[9] الطبري 1 / 472
 
[10] البخاري 2812
 
[11] أخرجه مسلم:3346
 
[12] السيرة الحلبية 2/387
 
[13] تفسير الطبري 7/295
المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day