1. المقالات
  2. السيرة النبوية صور تربوية وتطبيقات عملية - محمد مسعد ياقوت
  3. التجرد

التجرد

 

التجرد
 
عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ:  أُهَاجِرُ مَعَكَ .
 
فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  بَعْضَ أَصْحَابِهِ..
 
 فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَة [خيبر] غَنِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْيًا فَقَسَمَ، وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ [ أي يرعى الإبل لهم ] فَلَمَّا جَاءَ؛ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ: مَا هَذَا ؟  قَالُوا: قِسْمٌ، قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
 
فَأَخَذَهُ ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ !
 
 قَالَ – صلى الله عليه وسلم - : "  قَسَمْتُهُ لَكَ " .
 
قَالَ:  مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ ! وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا-  وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ !
 
 فَقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم - : " إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ " .
 
فَلَبِثُوا قَلِيلاً، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحْمَلُ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَهُوَ هُوَ  ؟ ! "
 
قَالُوا : نَعَمْ .
 
قَالَ : " صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ ! " .. ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَدَّمَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: "اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ ! خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ !"[1].
 
       
 
معنى التجرد :
 
في اللغة: جَرَدَ الشيءَ يجرُدُهُ جَرْداً وجَرَّدَهُ قشَره... والجُرْدَةُ بالضم أَرض مسْتوية متجرِّدة... والسماءُ جَرْداءُ إِذا لم يكن فيها غَيْم .. والتجرُّدُ التعرِّي [2] .
 
وفي الشرع، أن يتخلص المرء من هواه، وأن يَخلص نفسه لله، وأن يصطبغ بصبغة الله .
 
وإن شئت فقل : التجرد : أن تجعل نفسك وقفًا لله .
 
 
 
التجرد ومثال في الملائكة
 
والملائكة مثال لمن تجرد لمحض الخير، قال الله تعالى فيهم : " لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " [التحريم:6] ولذلك يقول الإمام الغزالي  :
 
"التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقربين، والتجرد للشر دون التلافي سجية الشياطين، والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين؛ فالمتجرد للخير ملك مقرب عند الملك الديان، والمتجرد للشر شيطان.."[3] .
 
 
 
التجرد ومثال في الحج
 
والحج من أهم العبادات التي يستشعر فيها المسلم المعنى الحقيقي للتجرد، فهو يترك الأهل والوطن، ويتجرد من ثيابه، فيرتدي ثوبًا أشبه بالكفن، ويؤدي مناسك لا يعلم حكمتها إلا الله، ويستشعر المسلم معنى التجرد في طوافه الخالص لله بالكيفية التي أرادها الله، وفي التلبية التي يهتف بها الحاج معلنًا تجرده لله وبراءته من الشريك والنظير .. وفي ذلك كله التجرد من شهوات النفس ومطالب الهوى.
 
 
 
وقفة تجرد :
 
في هذا المشهد السالف، نرى صورة من روائع التجرد لله، وصورة رجاله الذين صدقوا الله فصدقهم، فنالوا الجنة عن موقف تجردت فيه قلوبهم لله تمام التجرد، دون سابقة أعمال مأثورة أو تاريخ دعوي تليد، فقط دخلوا الجنة بوقفة وقفوها.
 
ومثاله الصحابي الذي دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة، حيث انتقل من صفوف الكفر إلى صفوف الإيمان في ميدان المعركة، فشهد شهادة الحق، فقاتل، فقُتل، هكذا في دقائق معدودات !
 
فمال الكبير الدالف، والسقيم المدنَف، وغيرهما، ممن عاشوا في الإسلام دون أن يقدموا له شيئًا يذكر ! أو انغمسوا في يَمِ المعصية مع قليل توبة، أو طُحنوا في طاحونة التجارة وتغذية البطون، وإشباع الفروج، والإمعان في نعيم زائل، فإما أن تمحصهم فُجاءات الأمور, وبَغَتات الحوادث، وإما أن تسكرهم سكرة الموت، فلا يرون أنفسهم إلا في عرصات القيامة حيث حساب ولا عمل، ونَدَمٍ حيث لا ينفع الندم !
 
 
 
هذا المتجرد :
 
هذا الأعرابي، عزم عزمة صادقة، وعرف غايته الكبرى وهي الجنة، وعرف السبيل إليها، وهو الجهاد، وأيقن أن الشهادة في سبيل الله هي أقصر الطرق وأيسر السبل إلى جنات عدن، فعقد في نفسه أسمى غاية، هي الموت في السبيل الله، وأخذ العهد على نفسه في ذلك، واتبع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أجل الوصول إلى الغاية عبر هذه الوسيلة.. "أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا-  وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ !" .. لقد كان طموحه في منتهى السمو، وهدفه في منتهى الوضوح، ومنهجه في الحياة في غاية الغضارة، وأوضح من الشمس في رابعة النهار ..
 
أن يُرمي بسهم في حلقه .. فيموت .. فيدخل الجنة ..
 
 
 
من تمام التجرد :
 
لقد جاء هذا الأعرابي بقسمه في الغنيمة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم ، مستغربًا، وقائلاً :
 
" مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ !"
 
وكأنه يرى أن من الغَثَارة والحماقة أن يتلهي بغنيمة دنيوية، فيضيع فيها الوقت، وتمر فيها ساعات تأخره عن غنيمته الكبرى التي طمح إليه . فبين لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه لم يكن قد عاهد على نعيم دنيوي قط، بل كانت عزمته للجنة، الجنة فحسب.
 
ويكأن القاصد البصير لا ينظر إلى الفتات !
 
 
 
الطريق إلى التجرد :
 
إن التجرد مرتبة عالية، ودرجة سامية، لا يتسنى لإنسان أن ينالها إلا بمجاهدة ..لا ينبغي أن ينالها نهمْة لا يشبعون، أو غلْمة لا يتعففون.
 
 لَرَجُلٌ ألزم نفسه الطاعات وألجمها عن الشهوات وصرفها عن الشبهات أحق أن ينال مرتبة التجرد.
 
 
 
قال الشاعر :
 
لا تحسبنَّ المجدَ تمرًا أنت آكله *** لن تبلغَ المجدَ حتى تلعقَ الصبرَ
 
وقال المتنبي مخاطبًا نفسه:
 
تُرِيدينَ إتيانَ المعالي رخيصةً *** و لا بد دون الشهدِ من إبْرِ النَّحلِ
 
 
 
فانظر كيف كانت بداية هذا الأعرابي، من أول يوم أسلم فيه، لقد كانت حياته صدقًا مع الله، فتأملْ – بارك الله فيك - أول الحديث، وتذاكرْ ما تحته خط :
 
"أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ:  أُهَاجِرُ مَعَكَ .
 
فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  بَعْضَ أَصْحَابِهِ..
 
فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَبْيًا ..."
 
لقد كان بادىء أمر هذه الأعرابي: إيمان، واتباع، وهجرة، وجهاد .. !
 
فلم يزل يجاهد نفسه في الإيمان، بحسن الاعتقاد، وكمال اليقين، وجمال التوكل.
 
ولم يزل يجاهد نفسه في الاتباع، بحسن التأسي، وتمام الاقتداء بخاتم الأنبياء – صلى الله عليه وسلم -.
 
ولم يزل يجاهد نفسه في الهجرة، فحمل نفسه حملاً، عن الشهوات والشبهات، وانتقل بنفسه من أرض الكفر إلى أرض الإيمان .
 
ولم يزل يجاهد نفسه في ساح الوغى، يكابد معمة القتال، يركض إلى الله ركضًا، بغير زاد إلا التُقى وعمل الرشاد .
 
وهكذا، لم يزل يجاهد في الله، حتى هداه سبيل التجرد، فكان له ما كان من الشهادة والكرامة .
 
 
 
جائزة التجرد :
 
وكانت جائزة هذا الأعرابي المتجرد عبارة عن حزمة من التكريمات النبوية والتشريفات المحمدية، فكانت له هذه المناقب :
 
المنقبة الأولى : أن صدّقه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فقال: " صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ ".
 
المنقبة الثانية : أن كفنه النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جُبَّته.
 
المنقبة الثالثة : أن قدَّمه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى عَلَيْهِ .
 
المنقبة الرابعة : أن دعا له النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ" .
 
المنقبة المنقبة الخامسة : أن شهد له النبي بالشهادة، قال : "فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ" .
 
أيها المتجرد، أبشر بهذه الخماسية !
 
 
 
توصية عملية :
 
استشعر حلاوة التجرد لله تعالى من كل الألقاب والأحساب والأنساب والأحزاب، استحضر في أعمالك وأقوالك أنك لله وحده لا شريك له .
 
 
-------------------------------------
 
[1] أخرجه النسائي : 1927،وصححه الألباني
 
[2] انظر : لسان العرب 3/115
 
[3] الإحياء 3/105
المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day