البحث
الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر والردة
5037
2012/02/26
2024/12/21
الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر والردة:
هذا المبحث من أهم المباحث التي تناولها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالعرض والجواب، ولقد أبدع وأجاد وأفاد رحمه الله في ذلك، وأنا أوجز وأختصر ما تيسر من كلامه رحمه الله لشدة الحاجة إليه في هذا المقام، رب يسِّر وأعن:
إنَّ سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جناية وجريمة فوق باقي الجنايات، وإن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم جريمة زائدة على جريمة الردة والكفر والحراب، وبدايةً لا بد من تحرير أوجه الحقوق المتعلقة بسب الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حرر ذلك ابن تيمية رحمه الله تحريراً نفيساً فقال:" إن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق:
1. حق الله سبحانه: من حيث كفرَ – أي الساب – برسوله، وعادى أفضل أوليائه، وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفةٌ على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته؛ فإن الطعن في الرسول طعنٌ في المرسِل، وتكذيبه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى، وإنكارٌ لكلامه وأمره وخبره وكثيرٍ من صفاته.
2. حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم: فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسِفارته، فالسب له أعظم عندهم مِن سبِّ أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحبُّ إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين.
3. حق رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه: فإن الإنسان تؤذيه الوقيعةُ في عِرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً من يجب عليه أن يظهرَ للناس كمالُ عِرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه قد يكون أعظم عنده مِن قتله، فإن قتلَه لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره، كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عِرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النُفره عنه وسوء الظن به ما يُفسد عليهم إيمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة.
فعُلم بذلك أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في الكفر والمحاربة، وهذا ظاهرٌ إن شاء الله تعالى." قلت: إذا تأملنا في هذه الحقوق تبينت أوجه الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين غيره من الجنايات على النحو التالي:
أولاً: الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب الله سبحانه وتعالى: إن مما لا يحتاج إلى تقرير أن سب الله عز وجل أعظم مقاماً من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أن هذا لا يمنع من وجود فرق بين سب الله تعالى وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يترتب فرق في الآثار المترتبة على هذا السب من حيث قبول التوبة من عدمه، فإذا تبين هذا فالفرق بين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب الله تعالى من وجوه:
1. إن سبَّ الله تعالى حقٌ محضٌ لله، وذلك يسقط بالتوبة، وسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه حقان؛ حقٌ لله وحقٌ للعبد، فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة، إلا أن يعفو.
2. إن النبي صلى الله عليه وسلم تلحقه المعرة بالسب لأنه مخلوق، وهو من جنس الآدميين الذين تلحقهم المعرة والغضاضة بالسب والشتم، وكذلك يُثابون على سبِّهم ويعطيهم الله من حسنات الشاتم أو من عنده عوضاً على ما أصابهم من المصيبة بالشتم، فمن سبَّه فقد انتقص حرمته صلى الله عليه وسلم. والخالق سبحانه لا تلحقه معرة ولا غضاضة بذلك، فإنه منزَّهٌ عن لحوق المنافع والمضار به، كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فنتفعوني"، وإذا كان سب النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤثِر انتقاصَه في النفوس وتلحقه بذلك معرة وضيم، وربما كان سبباً للتنفير عنه وقلة هيبته وسقوط حرمته، شُرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبِّه فلا تسقط بالتوبة كالعقوبة على جميع الجرائم، وأما ساب الله سبحانه فإنه يضر نفسه بمنزلة الكافر والمرتد فمتى تاب زال ضرر نفسه فلا يُقتل. ويؤيد ذلك أن القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنى، ثم لم يُشرع عليه حدٌ مقدَّر كما شُرع على الرمي بالزنى، وذلك لأن المقذوف بالكفر لا يلحقه العار الذي يلحقه بالرمي بالزنى، لأنه بما يُظهر من الإيمان يُعلَم كذب القاذف، وبما يظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرَّة، بخلاف الزنى فإنه يستسر به ولا يمكنه إظهار البراءة منه، ولا تزول معرته في عرف الناس عند إظهار التوبة، فكذلك ساب الرسول يُلحق بالدِين وأهله من المعرة ما لا يلحقهم إذا سب الله لكون المنافي لسبِّ الله ظاهراً معلوماً لكل أحدٍ علماً يشترك فيه كل الناس، بمعنى أن أثر سب الله تعالى لا يظهر بالنسبة لله تعالى.
3. إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يُسب على وجه الاستخفاف به والاستهانة، وللنفوس الكافرة والمنافقة إلى ذلك داعٍ من جهة الحسد على ما آتاه الله من فضله، ومن جهة المخالفة في دينه، ومن جهة التكبر عن الانقهار تحت حكم دينه وشرعه، ومن جهة المراغمة لأمته، وأما سبُّ الله سبحانه فإنه لا يقع في الغالب استخفافاً واستهانةً وإنما يقع تديُّناً واعتقاداً، وليس للنفوس في الغالب داعٍ إلى إيقاع السب إلا عن اعتقاد يرونه تعظيماً وتمجيداً، وهذا كمن يدعي أن الله اتخذ ولداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهذا من جنس السب بل هو شتم صريح كما جاء في الحديث القدسي، ومع ذلك فحكمه حكم الكفر إلا أن يتوب.
4. إن مفسدة سب الرسول صلى الله عليه وسلم لا تزول بإظهار التوبة، بخلاف مفسدة سب الله تعالى، ولهذا إذا نظرت إلى جريمة القتل والزنى وإلى جريمة الردة وجدت أن حد القتل والزنى لا يسقط لأنه لا يمكن إزالة مفسدتهما التي وقعت، بخلاف حد الردة فإنه يسقط بالإسلام لأن مفسدة وقوع الردة تزول بعودته للإسلام.
والحاصل أن حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم أُلحقت بحرمة الله من جهة التغليظ، لأن الطعن فيه طعن في دين الله وكتابه، ولكن هذا الحق أشبه بحقوق الآدميين من جهة بقاء حقه في استيفاء العقوبة من الساب، فهو صلى الله عليه وسلم من المخلوقين الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة، لأنهم ينتفعون باستيفاء الحقوق ممن هي عليه، ولئن كان من حقه صلى الله عليه وسلم العفو عمن شاء ممن له عليه حق في حياته فقد انقطع هذا بموته صلى الله عليه وسلم ولم يعد إلا تغليظ العقوبة وبطلان سقوطها بالتوبة. فالنبي صلى الله عليه وسلم يتألم بأذى مَن سبه وشتمه، فله أن يعاقب من آذاه تحصيلاً لمصلحة نفسه صلى الله عليه وسلم، كما له أن يأكل ويشرب، ومعلوم أن الله تعالى غني عن ذلك كله، ولهذا فان تمكين البشر من استيفاء حقه صلى الله عليه وسلم ممن بغى عليه من جملة مصالح المؤمنين، ولولا ذلك لماتت النفوس غمّاً من وقوع أذاه وعدم الانتصار له صلى الله عليه وسلم.