البحث
باب قوله تعالى:" إلا تنصروه فقد نصره الله"
باب قوله تعالى:" إلا تنصروه فقد نصره الله":
إنَّ تعرُّضَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لشيءٍ من الأذى من أعدائه عليهم لعنة الله لَيمثل داعياً قوياً للمؤمنين الأوفياء للقيام بواجب الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفديته بالأرواح والأهلون والأموال والأوطان، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم نعمَ الأنموذج يُحتذى في هذا المقام، غير أن الله تعالى لا يترك نبيه صلى الله عليه وسلم محتاجاً إلى نصرة أحد ولا مفتقراً إليها رغم تأكد وجوبها عليهم؛ فنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة علينا وهو صلى الله عليه وسلم غير مفتقرٍ إليها بما أغناه الله تعالى عنها بل عن الخلق أجمعين، ألم تر إلى قوله تعالى :" والله يعصمك من الناس"، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الآية:"والله يعصمك من الناس"، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله".
وقال تعالى :"إنا كفيناك المستهزئين" ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ومن سنة الله أن من لم يمكِّن المؤمنين أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله، فان الله سبحانه ينتقم منه لرسوله- صلى الله عليه وسلم - ويكفيه إياه كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكاتب المفترى، وكما قال سبحانه:"فاصدَع بما تُؤمر وأعرِض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين"، والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً مِن هؤلاء المستهزئين معروفة، قد ذكرها أهل السِيَر والتفسير وهم على ما قيل نفرٌ من رؤوس قريش، منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسودان بن المطلب وابن عبد يغوث والحارث بن قيس. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يُسلم، لكن قيصر أكرمَ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمَ رسولَه فثبت ملكُه، فيقال إن الملك باقٍ في ذريته إلى اليوم، وكسرى مزَّقَ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله اللهُ بعد قليل، ومزَّق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك". وقد أخرج الطبراني رحمه الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :"إنا كفيناك المستهزئين"قال:المستهزئون الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب أبو زمعة من بنى أسد بن عبد العزى، والحارث بن غيطل السهمي، والعاص بن وائل السهمي، فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراه أبا عمرو الوليد بن المغيرة فأومأ جبريل إلى أبجله فقال: ما صنعت شيئاً. فقال: كفيتكه. ثم أراه الحارث بن غيطل السهمي فأومأ إلى بطنه. فقال: ما صنعت شيئاً. فقال: كفيتكه. ثم أراه العاص بن وائل السهمي فأومأ إلى أخمصه. فقال: ما صنعت شيئاً. فقال: كفيتكه. فأما الوليد بن المغيرة فمرَّ برجلٍ من خزاعة وهو يريش نبلاً له فأصاب أبجله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فعمي فمنهم من يقول عمى كذا، ومنهم من يقول نزل تحت شجرة فجعل يقول: يا بني لا تدفعون عني قد هلكت أطعن بشوك في عينى، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً، فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث بن غيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها، وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوماً حتى دخل في رجله شبرقة حتى امتلأت منها فمات"، فهذه بعض نماذج انتقام الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكتب السير طافحة بمثل هذا، وقد عقد القاضي عياض رحمه الله فصلاً في كتابه النفيس الشفا بتعريف حقوق المصطفى بعنوان (عصمة الله تعالى له من الناس وكفايته مَن آذاه) ذكر فيه نماذج مثل ماتقدم.
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:" غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما أدركَتهُ القائلة وهو في وادٍ كثير العضاة، فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلّق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابيٌ قاعدٌ بين يديه فقال: إن هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط صلتاً قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشامه ثم قعد فهو هذا. قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"ووقع في رواية بن إسحاق بعد قوله (قال: الله) : فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد.
قال: قم فاذهب لشأنك، فلما ولَّى قال: أنت خير مني". والأحاديث في مثل هذا كثيرة، والشاهد فيها عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتجريد افتقاره لله تعالى وحده مع ما فرض على المؤمنين من نصرته، ليُعلم أن نصرة المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم شرفٌ لهم لا حاجةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقضونها، وليُعلم أن التخاذل عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم منقصةٌ للمتخاذلين لا تضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بشيء وقد كفاه الله تعالى حيث قال سبحانه:"أليس الله بكافٍ عبده"، قال القاضي عياض رحمه الله:"قيل: بكافٍ محمداً صلى الله عليه وسلم أعداءه المشركين". قلت: فليُعلم إذاً أن قوله تعالى :"إلا تنصروه فقد نصره الله" كما أنه خبر عن نصرة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وكفايته إياه، فإن فيه معنى الوعيد والتهديد لمن تخاذل عن نصرته صلى الله عليه وسلم، لأنه متى أُعلن بأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تمحض فسطاطان؛ أحدهما فسطاط عداوته والآخر فسطاط نصرته، فمن لم يهرع لفداء النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما يملك فقد اختار لنفسه فسطاط العداوة ولو بمجرد الصمت وما أخبثه من صمت، فلما ركن إلى أهل العداوة والتحق بفسطاطهم أصبح في عداوةٍ مع الله عز وجل لأن الله تعالى أخبر وهو أصدق القائلين أنه ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم لا محالة، فتأمل هذا وارثَ لحال من اختار خذلان نبي الله صلى الله عليه وسلم وعداوة الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية.