1. المقالات
  2. مقالات و خواطر
  3. عائشة رضي الله عنها وأثرها في حياة تلامذتها

عائشة رضي الله عنها وأثرها في حياة تلامذتها

الكاتب : أبو حاتم عبد الرحمن طوخي - موقع الألوكة
تحت قسم : مقالات و خواطر
3084 2013/02/28 2024/12/18

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ السلام على مَن لا نبيَّ بعده.


وبعد:

فإنَّ السيِّدةَ عائشة - رضي الله عنها - حَفِظتْ لنا أحاديثَ كثيرة، وروتْ علمًا كثيرًا طيبًا، مباركًا فيه عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى غدَتْ مربيَّة، ومعلِّمة، ومحدِّثة، ومفسِّرة، وفقيهة.



ولا يشكُّ عاقلٌ أنَّ المرء إذا بارك الله له في عِلْمه، يُوفَّق لتلاميذ بَرَرة، ينشرون علمَه في المشرِق والمغرِب، حتى يكونَ مِلءَ السمع والبصر في الدنيا بأَسْرها، فيستفيد القاصي والداني بما كتَب وسطَّر، وشَرَح ووضَّح، وذلك يرجع إلى التلاميذ الأوفياء، الذين اعتنوا بذلك، وجعلوه محورَ ارتكازهم، وجُلَّ اهتمامهم، متأثِّرين مع ذلك بلَفْظ العالِم ولَحْظه.



والحُرُّ هو مَن يرْعى وداد لحظه، وإفادَة لفظه - كما قال الشافعي - رحمه الله.



وما جَعَل مالكًا يفوق اللَّيْثَ بن سعد، إلاَّ لأنَّ أصحابَه قاموا بعِلْمه ونشروه، وإلاَّ فقدْ قال الشافعي - وهو مَن هو في عُلُوِّ كَعْبِه في العِلم، وتلميذ مالك - إنَّ الليث أفقهُ من مالك، ولكن أصحابه لم يقوموا به؛ يعني: لم ينشروا علمَه، ولم يجوبوا البلادَ في نشْر مذهبه، كما كان حال مالك - رضي الله عن الجميع.



والسيِّدةُ عائشة - رضي الله عنها - حدَّث عنها أناسٌ كثيرون، وضمَّتْ مدرستُها عددًا كبيرًا من التلاميذ، وتخرَّج على يديها سادةُ العلماء مِن التابعين.



والمرْء يَصعُبُ عليه حصْرُ هؤلاء الأفاضل مِن التابعين الذين حمَلوا العلم عنها، ولكنَّ حسبَ القلادة ما أحاط بالعُنق، ومِن السوار ما أحاط بالمِعْصم، أنْ نقِفَ مع أشهر التلاميذ الذين حمَلوا العلم عنها، ونشَروه في الآفاق، وصاروا أئمَّةً يُقتدَى بهم في العِلم والعمل.


فمن أشهر هؤلاء:

1- عروة بن الزبير - رحمه الله تعالى -:

الإمامُ الكبير، القُدوة، عالِم المدينة، وأحَدُ فقهائها السَّبعة، أبو عبدالله، القُرَشي الأسدي المدني، أبوه الزُّبَير بن العوَّام، حواري النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأُمُّه أسماء بنت أبي بكر - ذات النطاقين.



وُلِد في خِلافة عمر سَنَة ثلاث وعشرين للهِجرة، تفقَّه بالسيِّدة عائشة، وكان يدخل عليها كثيرًا.



أثْنَى عليه أهلُ العلم ثناءً عطرًا:

قال عمرُ بن عبدالعزيز: ما أجِدُ أعلمَ من عروة بن الزُّبَير، وما أعْلَمه يعلم شيئًا أجهله.



حدَّث الأصمعي عن مالك، عن الزهري، قال: سألتُ ابن صُعَير عن شيء من الفِقه، فقال: عليك بهذا، وأشار إلى ابنِ المسيّب، فجالستُه سبع سنين لا أرى أنَّ عالِمًا غيره، ثم تحوَّلتُ إلى عروة، ففجَّرْتُ به ثَبَجَ بَحْر.



وحدَّث ابنُ أبي الزناد: قال حدَّثني عبدالرحمن بن حُمَيد بن عبدالرحمن، قال: دخلتُ مع أبي المسجِدَ، فرأيتُ الناس قد اجتمعوا على رجل، فقال أبي: انظرْ مَن هذا، فنظرتُ فإذا هو عروة، فأخبرتُه وتعجبْت، فقال: يا بني، لا تعجبْ، لقد رأيت أصحابَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسألونه؛ "سير أعلام النبلاء" (4/425).



قلت: وحديثُه في الكُتُب السِّتَّة.



وقال ابنُ شهاب: كان إذا حدَّثَني عُروةُ، ثم حدَّثتْني عمرة، صدَّق عندي حديث عمرة حديث عروة، فلمَّا بحرتهما إذا عروة بحْر لا ينزف؛ "تهذيب التهذيب" (7/164).


قال ابن سعد: كان فقيهًا عالِمًا، كثيرَ الحديث، ثبتًا مأمونًا؛ "الطبقات" (5/43).



وقال ابن حبَّان: "كان مِن أفاضل أهلِ المدينة وعُلمائهم"؛ "الثقات" (5/194، 195).



وقال سفيانُ بنُ عيينة، عن الزهري: كان عروة يتألَّف الناس على حديثه؛ "السير" (4/425، 431)، "تهذيب التهذيب" (7/164).



وكان يقول لأبنائه: "يا بَنِيَّ، تعلَّموا العِلم، فإنَّكم إنْ تكونوا صغارَ قوم، عسى أن تكونوا كبارَهم، واسوأتاه، ماذا أقبحُ مِن شيخ جاهل؟!"؛ "حلية الأولياء" (2/177).



وفي رواية أُخْرى عن مُبارك بن فَضالة، عن هشام، عن أبيه: "أنَّه كان يقول لنا ونحن شباب: ما لكم لا تَعلَّمون؟! إنْ تكونوا صِغارَ قوم يوشك أن تكونوا كبارَ قوم، وما خير الشَّيْخ أن يكون شيخًا وهو جاهِل؟!"؛ "السير" (4/424).



وكان يَرَى أنَّ على طالبِ العلم أن يَطلُبَ العلم، وأن يُزِلَّ نفسه في طلبه، حتى يورثَه ذلك عِزًّا طويلاً، فيقول: "رُبَّ كلمةِ ذُلٍّ احتملتُها أوْرَثتْني عزًّا طويلاً"؛ "صفة الصفوة" (1/293).


وأنت لو قلَّبْتَ أيَّ ديوان من دواوين السنَّة، لوجدتَ رواية عروة عن عائشة كثيرة جدًّا، وإن دلَّ على شيء، فإنَّما يدلُّ على كثرةِ ملازمته لها.



قال قبيصة بن ذؤيب: كان عروةُ يغلبنا بدخوله على عائشة، وكانتْ عائشةُ أعلمَ الناس، وكان عروةُ أعلمَ الناس بحديث عائشة؛ "تهذيب التهذيب" (7/164).



حَمَل عِلم عائشة؛ ذكر أبو نعيم في "الحلية" (2/176)، والذهبي في "السير" (4/431): "أنَّه كان جالسًا في فناء الكعبة ومعه عبدالله بن عمر، ومُصْعَب بن الزبير، وعبدالله بن الزبير، فقال لهم مُصْعَب: تَمنَّوا، فقالوا: "ابدأ أنت"... قال عروة: وأتمنَّى الفِقه، وأن يُحمَل عني الحديث، فنال ذلك.



وصار عروةُ مِن أثبت الناس في عائشة، حتى قال: لقدْ رأيتُني قبل موْت عائشة بأربع حِجج، أو خمْس حجج، وأنا أقول: "لو ماتتِ اليومَ ما ندمتُ على حديث عندَها إلا وقد وَعَيْتُه"؛ "سير أعلام النبلاء" (4/424).



قال هشام، عن أبيه: ما ماتتْ عائشة حتى تركتُها قبل ذلك بثلاث سِنين؛ "سير أعلام النبلاء" (4/424).



ولم يقفْ تأثُّر عروة - رحمه الله - بالسيِّدة عائشة عندَ حدود العلم، فقد تعدَّى ذلك إلى التأثُّرِ بأخلاقها وشمائلها عامَّة، وعبادتها أيضًا.



فعن ضَمْرةَ بن ربيعة، عن ابن شوذب، قال: كان عروةُ بن الزبير يقرأ رُبُعَ القرآن كلَّ يوم نظرًا في المصحف، ويقوم به الليلَ، فما ترَكَه إلا ليلةَ قُطِعت رِجلُه، ثم عاود جروه من الليلة المُقْبِلة، وكان وقع في رجله الأَكَلة فنشَرها، وكان عروة إذا كان أيَّامُ الرطب ثَلَم حائطَه، فيدخل الناس فيأكلون ويحملون، وكان إذا دخَله، ردَّد هذه الآية: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39]، حتى يخرج؛ "السير" (4/426).



وذكر عليُّ بنُ المبارك الهنائي، عن هشام بن عُرْوة: أنَّ أباه كان يصوم الدهر كلَّه إلاَّ يوم الفطر ويوم النَّحْر، ومات وهو صائِم؛ "السير" (4/436).



تُوفِّي - رحمه الله ورضي عنه - سنة أربعٍ وتِسعين، ودُفِن يوم الجُمُعة.



من أقواله - رحمه الله -:

• إذا رأيتَ الرجل يعمل الحَسَنة، فاعلم أنَّ لها عندَه أخوات، وإذا رأيتَه يعمل السيئة، فاعلم أنَّ لها عندَه أخوات؛ فإنَّ الحسنة تدلُّ على أختها، وإنَّ السيئة تدلُّ على أختها؛ "تهذيب التهذيب" (7/165).



• ما حدثتَ أحدًا بشيء من العِلم قطُّ لا يبلغه عقلُه، إلاَّ كان ضلالةً عليه؛ "سير أعلام النبلاء" (4/437).



• لتكن كلمتُك طيبة، وليكن وجهُك بسطًا، تكُنْ أحبَّ إلى الناس ممَّن يُعطيهم العطاء؛ "الحلية" (2/178).



• إذا جعَل أحدُكم لله - عزَّ وجلَّ - شيئًا، فلا يجعلْ له ما يستحي أن يجعلَه لكريم، فإنَّ الله أكرمُ الكرماء، وأحقُّ مَن اختير له؛ "صفة الصفوة" (1/294).


2- القاسم بن محمد بن أبي بكر - رحمه الله تعالى -:

هو الإمام القُدوة، أبو عبدالرحمن، التيمي المَدني، الفقيه، قُتِل أبوه وهو صغير، فتربَّى يتيمًا في حجْر عمَّته عائشة - رضي الله عنها - فتفَقَّه بها.



قال عنه أبو نعيم في "الحلية" (2/183): "الفقيه الوَرِع، الشفيق الضَّرِع، نَجْل الصِّدِّيق، ذو الحَسَب العتيق، القاسِم بن محمد بن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، كان لغوامضِ الأحكام فائقًا، وإلى محاسن الأخلاق سابقًا".



قال ابن سعد في "الطبقات" (5/193): "كان رفيعًا عاليًا فقيهًا، كثيرَ الحديث وَرِعًا".



قلت: وحديثه في الكتب الستَّة.



اهتمَّتْ به السيدةُ عائشة بعد مقْتل أبيه كثيرًا، وكان يَذكُر ذلك، فيقول: "كانت عائشةُ تَحلِق رؤوسنا عشيةَ عرَفَة، ثم تحلقنا وتبْعَثُنا إلى المسجد، ثم تُضحِّي عندنا مِنَ الغد"؛ "الطبقات" (5/187).



وَرِثَ عن عمَّته ومُعلِّمته عائشة - رضي الله عنها - روايةَ السنَّة، حتى قيل: "أعْلمُ الناس بحديثِ عائشةَ ثلاثة: (القاسم، وعروة، وعَمْرة بنت عبدالرحمن)؛ تهذيب التهذيب (12/389).



وأضاف إلى رِوايةِ السنَّة الفِقه؛ قال أبو الزناد: "ما رأيتُ فقيهًا أعلم من القاسم، وما رأيتُ أحدًا أعلم بالسُّنَّة منه، وكان الرجلُ لا يُعدُّ رجلاً حتى يعرفَ السُّنَّة"؛ "الحلية" (2/183).



وفي روايةٍ أخرى: "وما رأيتُ أحدَّ ذِهنًا من القاسِم، إنْ كان ليضحَك مِن أصحاب الشُّبَه كما يضحَك الفتَى"؛ "السير" (5/56).



وكان عفيفًا ورعًا، كريمًا متواضعًا، ناسيًا حظَّ نفسه، وكان السَّلَف يتشبَّهون به في عبادته؛ قال ابنُ وهب: ذكَر مالكٌ القاسمَ بن محمد، فقال: كان مِن فقهاء هذه الأمَّة، ثم حدَّثني مالك أنَّ ابن سيرين كان قد ثَقُل وتخلَّف عن الحجِّ، فكان يأمُر مَن يحجُّ أن ينظر إلى هدي القاسم ولُبوسِه وناحيته، فيبلغونه ذلك، فيقتدي بالقاسم؛ "السير" (5/57).



قال أيوبُ السختياني: ما رأيتُ رجلاً أفضل من القاسِم، لقد ترك مائةَ ألف، وهي له حلال؛ "تذكرة الحفاظ" (1/75).



ومِن وَرعِه في العِلم ما ذكَرَه أيوب السختياني، قال: سمعتُ القاسم يُسأل بمنًى، فيقول: لا أدْري، لا أعْلم، فلمَّا أكثروا عليه قال: والله لا نعلمُ كلَّ ما تسألونا عنه، ولو علمنا ما كتَمْناكم، ولا حلَّ لنا أن نكتمَكم؛ "صفة الصفوة" (1/295).





"وكان عمرُ بن عبدالعزيز متأثِّرًا به، علمًا وزهدًا وورعًا وأُخُوَّةً في الله، ويقول: لو كان لي مِن الأمر شيءٌ، لاستخلفتُ أُعَيْمش بني تيم؛ يعني: القاسم"، وروى الواقديُّ: أنَّها بلغتِ القاسم، فقال: إني لأضعُف عن أهلي، فكيف بأمْر الأمَّة؟! "تذكرة الحفاظ" (1/75)، "سير أعلام النبلاء" (5/59).



وبلغ مِن عدم تزكيته لنفسه أنَّ أعرابيًّا جاءه، فقال: أنت أعلمُ، أمْ سالم؟ قال: ذاك منزلُ سالِم، فلم يزدْه عليها حتى قام الأعرابي.



قال: محمَّد بن إسحاق معلقًا: كَرِه أن يقول: هو أعلمُ مني فيكذب، أو يقول: أنا أعلم منه فيزكي نفْسَه.



قال الذهبي معلقًا: وكان القاسمُ أعلمَهما؛ "سير أعلام النبلاء" (5/56).



مات القاسِم بن محمَّد بيْن مكة والمدينة حاجًّا أو معتمرًا، فقال لابنه: سُنَّ على التراب سنًّا، وسوِّ على قبري، والْحَقْ بأهلك، وإيَّاك أن تقول: كان وكان؛ "الحلية" (2/182).



وفي "السير" (5/60): إنَّه مات بقديد، وقال: كفِّنوني في ثيابي التي كنتُ أصلِّي فيها: قميصي، ورِدائي؛ هكذا كُفِّن أبو بكر.



وكان موته سَنَةَ ثمانٍ ومائة.



من أقواله - رحمه الله -:

• لأنْ يعيشَ الرجلُ جاهلاً بعدَ أن يعرِفَ حقَّ الله عليه خيرٌ له من أن يقول ما لا يَعْلم؛ "السير" (5/57).

• كان إذا سُئِل عن حُكْم مسألة، قال: أرَى، ولا أقول: إنَّه الحق؛ "الطبقات" (5/187).

• وقال لقومٍ يذكرون القَدَر: كفُّوا عمَّا كفَّ الله عنه؛ "الطبقات" (5/118).



3- مسروق بن الأجدع - رحمه الله تعالى -:

الإمام، القُدوة، العَلَم، أبو عائشة الوادعي، الهَمْداني، الكوفي

مسروق بن الأجدع بن مالك بن أُميَّة بن عبدالله.



حديثُه في الكتب السِّتَّة، معدودٌ في كبار التابعين، وفي المخضْرمين الذين أسْلَموا في حياةِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.



سُمِّي مسروقًا؛ يقال: إنَّه سُرِق وهو صغير، ثم وُجِد فسُمِّي مسروقًا، وأسلم أبوه الأجدع؛ "تاريخ بغداد" (13/232).



كَفَلَتْه عائشةُ - رضي الله عنها - فلازَمَها، وحمَل عنها عِلمًا كثيرًا، وأحبَّها حُبًّا عظيمًا؛ إكرامًا لها، وتبجيلاً لقَدْرها.



روى سعيدُ بن عثمان التَّنُّوخيُّ الحِمصي: حدَّثَنا عليُّ بن الحسن السامي، حدَّثَنا الثوريُّ عن فطر بن خَليفة، عن الشَّعْبي، قال: غُشِي على مسروق في يوم صائِف، وكانتْ عائشة قد تبنتْه، فسَمَّى بِنْتَه عائشة، وكان لا يَعْصي ابنتَه شيئًا، قال: فنزلتْ إليه، فقالت: يا أبتاه، أفْطِر واشربْ، قال: ما أردتِ بي يا بُنَيَّة؟ قالت: الرِّفْق، قال: يا بنية، إنَّما طلبتُ الرفق لنفسي في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سَنَة؛ "السير" (4/67، 68).



قال الشعبيُّ: عن مسروق، قالتْ عائشة: يا مسروقُ، إنَّك مِن ولدي، وإنَّك لَمِنْ أحبِّهم إلي، فهل لك علمٌ بالمُخْدَج؛ "السير" (4/66).



أخَذ عنها علمًا وعبادةً، وتقوى وورعًا، وخوفًا من الله - عزَّ وجلَّ.



كان حريصًا على طلب العلم، حتى قال فيه الشعبيُّ: "ما علمتُ أنَّ أحدًا كان أطلبَ للعِلم في أُفق من الآفاق مِن مسروق"؛ "السير" (4/65).



وقال أيضًا: كان مسروقٌ أعلمَ بالفتوى مِن شُرَيح، وكان شُريحٌ أعلمَ بالقضاء من مسروق، وكان شريح يستشير مسروقًا، وكان مسروقٌ لا يستشير شريحًا؛ "تاريخ بغداد" (13/233).



قال أنس بن سِيرين، عن امرأةِ مسروق: كان مسروقٌ يُصلِّي حتى تُورَّمت قدماه، فربَّما جلستُ خَلْفَه أبْكي ممَّا أراه يصْنع بنفسه؛ "صفة الصفوة" (2/508).



عن إسماعيلَ بن أمية قال: قيل لمسروق: لو أنَّك قصرتَ عن بعض ما تصنع؛ أي: مِن العبادة؟ فقال: والله لو أتاني آتٍ فأخبرني أنَّ الله لا يُعذِّبني، لاجتهدتُ في العبادة، قيل: وكيف ذلك؟! قال: حتى تَعذِرني نفسي إنْ دخلتُ جهنمَ لا ألومها، أمَا بلَغَك في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، إنَّما لاموا أنفسَهم حين صاروا إلى جهنم، واعْتقبتْهم الزبانية، وحِيل بيْنهم وبيْن ما يَشْتَهون، وانقطعتْ عنهم الأمانيُّ، ورُفِعتْ عنهم الرحمة، وأقبل كلُّ امرئ منهم يلوم نفسَه؛ "صفة الصفوة" (2/508).



وكان يحزن على تفريطِه في السُّجود في حقِّ مولاه:

قال سعيدُ بن جُبَير: قال لي مسروق: ما بَقِي شيء يُرغَب فيه إلا أن نُعفِّر وجوهنا في التراب، وما آسَى على شيء إلا السُّجود لله تعالى؛ "السير" (4/66).



عن إبراهيم قال: كان مسروقٌ يُرْخِي السِّتر بيْنه وبيْن أهله، ثم يُقبِل على صلاته، ويُخلِّيهم ودُنياهم؛ "صفة الصفوة" (2/508).



وقال شُعْبةُ عن أبي إسحاق: حجَّ مسروقٌ، فلم ينمْ إلا ساجدًا على وجهه حتى رَجَع؛ "السير" (4/65).



وكان يحبُّ الجهادَ في سبيل الله، ويؤثره على ما يحب:

قال أبو إسحاق السَّبِيعي: زوَّج مسروقٌ بنته بالسائب بن الأقرع على عشرة آلاف لنَفْسه يجعلها في المجاهِدين والمساكين؛ "السير" (4/66).



مات - رحمه الله - سَنَة ثلاث وستِّين.



ومن أقواله - رحمه الله -:

• كفَى بالمرء علمًا أن يخشى الله - تعالى - وكَفَى بالمرء جهلاً أن يُعجَب بعمله؛ "السير" (4/68).

• إنَّ المرء لحقيقٌ أن يكونَ له مَجالسُ يخلو فيها، يَتذكَّرُ ذنوبَه ويستغفر منها؛ "صفة الصفوة" (2/509).

• بحسبِ المؤمن من الجهل أن يُعجَب بعمله، وبحسب المؤمِن من العلم أن يَخْشَى الله؛ "صفة الصفوة" (2/509).



4- عمرة بنت عبدالرحمن الأنصاريَّة - رحمها الله تعالى -:

عَمْرة بنت عبدالرحمن بن سعْد بن زرارة بن عدس، الأنصاريَّة النجاريَّة المدنيَّة، الفقيهة، تَريبة عائشة وتلميذتها، قيل: لأبيها صُحْبة، وجدُّها سعدٌ من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسْعَد بن زُرارة.



ضمَّتْها عائشة - رضي الله عنها - مع إخوتها وأخواتها إلى حجْرِها بعدَ وفاة والدهم، وبعدَ وفاة رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنشأتْ في بيْتِ التقوى والعِلم، والدِّيانة والوَرَع، وكانتْ ذَكيةَ الفؤاد، لمَّاحة، وقَّادَة الذِّهن، فوعَتْ عن عائشةَ كثيرًا من العِلم، وكانتْ عالِمَةً فقيهة، حُجَّة، كثيرة العلم، وحدَّثتْ بحديثها مِن بَعْدها، وكانتْ مِن أعلم الناس بحديثِ عائشة، وحديثها في الكتب الستَّة.



تزوَّجت عبدالرحمن بن حارثة بن النعمان، فولدتْ له محمَّدًا وهو أبو الرِّجال - وهو لَقب كان له؛ "الطبقات" (8/480).



روى أيوبُ بن سُوَيد، عن يونس، عن ابن شِهاب، عن القاسِم بن مُحمَّد: أنَّه قال لي: يا غلامُ، أراكَ تحرِص على طلب العلم، أفلاَ أدلُّك على وعائه؟ قلتُ: بلى، قال: عليك بعَمْرة؛ فإنَّها كانتْ في حجْرِ عائشة، قال: فأتيتُها فوجدتُها بحرًا لا ينزف؛ "السير" (4/508).



وقال محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر المُقدَّمِي، عن أبيه: سمعتُ عليَّ بنَ المديني، وذكَر عَمْرَةَ بنت عبدالرحمن، ففخَّم من أمرها، وقال: عمرةُ أحدُ الثِّقات العلماء بعائشةَ، الأثبات فيها؛ "تهذيب التهذيب" (12/389).



قال ابنُ المديني عن سفيان: "أثبتُ حديثِ عائشة حديثُ عمرة، والقاسم، وعروة"؛ "تهذيب التهذيب" (12/389).



وقال شُعْبةُ عن محمَّد بن عبدالرحمن: قال لي عمرُ بنُ عبدالعزيز: ما بَقِي أحدٌ أعلم بحديث عائشة مِن عَمْرة؛ "تهذيب التهذيب" (12/389).



وأخْرَج ابنُ سعد في طبقاته (8/480) عن عبدالله بن دينار قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكْر بن محمَّد بن حزم: أنِ انظرْ ما كان من حديثِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو سُنَّة ماضية، أو حديث عمْرة، فاكْتُبْه، فإنِّي خشيتُ دروسَ العلم، وذَهابَ أهله.



تُوفِّيت سَنَة ثمان وتسعين، وهي بنتُ سبع وسبعين سَنة.



وأخرج ابن سعد في "الطبقات" (8/481): إنَّها قالت لبني أخٍ لها: أعْطوني قبْري في حائط، ولهم حائط (بستان) يلي (البقيع)، فإنِّي سمعتُ عائشة - رضي الله عنها - تقول: كسْر عَظْمِ الميِّت ككسره حيًّا.


5- معاذة العدوية - رحمها الله تعالى -:

مُعاذَة بنت عبدالله العدوية، أم الصَّهْباء البصريَّة، امرأة صِلة بن أَشْيَم، وكانتْ مِن العابدات، وكان زوجُها من خيار التابعين، ديانةً وتقوى وورعًا، مات شهيدًا في كابول، في بعضِ المعارك في أوَّل إمْرة الحَجَّاج بن يوسف الثقفي على العِراق.



"لَمَّا استُشْهِد زوجُها صِلة وابنها في بعض الحروب، اجتمع النِّساء عندَها، فقالت: مرحبًا بكن، إن كنتُنَّ جئتنَّ للهناء، وإن كنتنَّ جئتنَّ لغير ذلك، فارجعْنَ، وكانت تقول: والله ما أُحِبُّ البقاءَ إلا لأتقرَّب إلى ربي بالوسائل، لعلَّه يجمع بيْني وبيْن أبي الشعثاء وابنه في الجنة"؛ "السير" (4/509)، "الطبقات" (7/137).



لقدْ وَرِثتْ عن عائشة - رضي الله عنها - كثرةَ العِلْم والعبادة، والتقْوى والزُّهْد، وقدِ اشتهرتْ بذلك، وحديثُها في الكُتُب السِّتَّة.



وقال محمَّد بن الحُسَين البرجلاني، عن محمَّد بن سنان الباهلي: حدَّثَني سلمةُ بن حبان العدويُّ، قال: حدَّثَنا الحَيُّ أنَّ معاذةَ العدويَّة لم توسدْ فراشًا بعدَ أبي الصَّهْباء حتى ماتتْ؛ "تهذيب الكمال" (35/309).



ذكَر ابنُ الجوزيِّ في "صفة الصفوة" (4/22): "كانتْ معاذة العدويَّة إذا جاء النهارُ قالت: هذا يومي الذي أموتُ فيه، فما تنام حتى تُمْسي، وإذا جاء الليلُ قالت: هذه ليلتي التي أموتُ فيها، فلا تنام حتى تُصْبح، وإذا جاء البَرْدُ لَبِسَتِ الثيابَ الرِّقاق؛ حتى يَمنعَها البردُ مِن النوم".



كانتْ معاذةُ العدوية تُصلِّي في كلِّ يوم وليلة سِتَّمائة رَكْعة، وتقرأ جُزْأَها من الليل تقوم به، وكانتْ تقول: عجبتُ لعين تنام وقد عَرَفتْ طول الرُّقاد في ظُلَمِ القبور! "صفة الصفوة" (4/22).



ومِن كرامتها على ربِّها - عزَّ وجلَّ - ما ذكَرَه الحافظ ابن حجر قال:

رُوينا في فوائدِ عبدالعزيز المشرقي بسندٍ له عن أبي بِشْر - شيْخ من أهل البصرة - قال: أتيتُ معاذة، فقالت: إني اشتكيتُ بطْني، فوُصِف لي نبيذ الجر، فأتيتها منه بقَدَح، فوضعتُه، فقالت: اللهمَّ إن كنتَ تعلم أنَّ عائشة حدَّثتني أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - نهى عن نبيذ الجر، فاكْفِنيه بما شِئت، قال: فانكفأ القَدَح، وأُهريق ما فيه، وأذْهَب الله - تعالى - ما كان بها؛ "تهذيب التهذيب" (12 / 401).



"لَمَّا احتضرَها الموت، بكَتْ ثم ضَحِكت، فقيل لها: ممَّ بكيتِ، ثم ضحكت؟ فمِمَّ البكاء؟ وممَّ الضحك؟! قالت: أمَّا البكاء الذي رأيتم، فإني ذكرتُ مفارقةَ الصيام والصلاة والذِّكْر، فكان البكاء لذلك، وأمَّا الذي رأيتُم من تبسُّمي وضَحِكي، فإني نظرتُ إلى أبي الصهباء قد أقْبَل في صحْن الدار، وعليه حُلَّتان خَضراوان، وهو في نفَر، واللهِ ما رأيتُ لهم في الدنيا شبهًا، فضحكتُ إليه، ولا أراني أُدْرِك بعدَ ذلك فرْضًا"؛ "صفة الصفوة" (4/22).



قال الراوي: فماتتْ قبل أن يدخُلَ وقت الصلاة.



ماتت في سَنَة ثلاث وثمانين.

ومن أقوالها - رحمها الله -:

ما ذَكَره ابنُ الجوزيِّ عن زُهَير السلولي، عن رجلٍ مِن بني عديٍّ عنِ امرأة منهم أرضعتْها معاذةُ ابنة عبدالله، قالت: قالت لي مُعاذة: يا بنيَّة، كُوني مِن لِقاء الله - عزَّ وجلَّ - على حذَر ورَجاء، وإنِّي رأيت الراجي له مَحقوقًا بحُسْن الزُّلْفَى لديه يومَ يَلْقاه، ورأيت الخائف له مؤمِّلاً للأمان يومَ يقوم الناسُ لربِّ العالمين، ثم بَكَتْ حتى غلبَها البكاءُ؛ "صفة الصفوة" (4/22).



وصَلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمَّد وآله.

المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day