والنفس غالية، وإن ذهبت النفس فلا عودة لها إلى يوم القيامة، لكن الصديق واضح الرؤية، وثاقب النظر، له قواعد ثابتة تحكم حياته، من هذه القواعد: [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] {التوبة:51}. من هذه القواعد:
[لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {يونس:49}.
من هذه القواعد:
[إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:111} .
من هذه القواعد:
[وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] {الحج:78} .
من هذه القواعد:
[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {آل عمران:185} .
إذا نظرت إلى هذه القواعد مجتمعة أدركت جانبًا لا بأس به من حياة الصديق، تعالوا نستمتع بوقفات مع الصديق رضي الله عنه، نرقب كيف خلصت نفسه من حظ نفسه:
- تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أنه لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الأربعين رجلًا (يعني في أوائل فترة مكة) ألح الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال:
يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ.
فلم يزل أبو بكر يلح، حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، ويبدو أن هذا لم يكن ظهورًا كاملًا للمسلمين؛ لأنه من المعروف أن الظهور الكامل لم يكن إلا بعد إسلام الخطاب رضي الله عنه، ولما ذهبوا إلى المسجد الحرام لم يكتف الصديق بمجرد الظهور، فوقف خطيبًا يدعو إلى الله تعالى، ويدعو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، لذا يقولون: إن الصديق أول خطيب في الإسلام.
بعد رسول الله طبعًا، ماذا كان رد فعل المشركين؟
ثار المشركون ثورة عنيفة، وقاموا يضربون الصديق ضربًا عنيفًا، تنكروا لأعرافهم في الجاهلية، ونسوا مكانة الصديق المرموقة في المجتمع المكي القديم، وأكل الحقد قلوبهم، وما زال بهم الحقد حتى أعمى أبصارهم، دنا الفاسق عتبة بن ربيعة من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وجعل يضربه بنعلين مخصوفين في وجهه، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وذلك من شدة تورم وجهه، وجاء بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملوه في ثوب، حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم إلى المسجد، وقالوا:
والله لئن مات أبو بكر، لنقتلن عتبة بن ربيعة.
ثم رجعوا إلى أبي بكر، فجعلوا يكلمون أبا بكر، وهو في إغماءه طويلة، حتى أفاق آخر النهار، فرد عليهم، فماذا قال؟
قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
سبحان الله حتى، وهو في هذه الحالة بين الحياة والموت، طبعًا بنو تيم لم يفهموا هذه العاطفة الجياشة، كل ما فهموه هو الوضع الخطير الذي وضعهم فيه الصديق رضي الله عنه، وها هم قد توعدوا بقتل زعيم من زعماء قريش عتبة بن ربيعة، ولا شك إن قتلوه ستنقسم قريش إلى أحزاب، وشيع، وإن لم يقتلوه إذا مات الصديق، فإنهم سيخلفون وعدهم، وهذه في عرف العرب إهانة لا تستقيم بعدها حياة، كل هذه الأمور المتفاعلة جعلتهم يعنفون الصديق، ويلومونه، ويكيلون له الكلام، بما فيهم أبوه أبو قحافة، ومع ذلك فالصديق رضي الله عنه له مكانة كبيرة في قلوبهم، التفوا إلى أمه أم الخير وكانت آنذاك مشركة، وقالوا:
انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه.
فلما انصرفوا حاولت أمه أن تطعمه، وتسقيه، لكنه جعل يقول:
ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أشبهه بالأم التي أصيبت هي وولدها في حادث فأغمى عليها ثم أفاقت، أيكون لهم من هم إلا الاطمئنان على ولدها؟!
هكذا أحَبّ الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يزيد، قال الصديق لأمه:
اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه.
وأم جميل هي أخت عمر بن الخطاب، وكانت آنذاك مسلمة، وأخوها مشركًا، فخرجت أم الصديق إلى أم جميل فقالت:
إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله.
هنا نرى موقفًا لطيفًا من أم جميل بنت الخطاب رضي الله عنها، فتلك المرأة المسلمة الواعية الحذرة خشيت من أم الصديق، أم الصديق ما زالت مشركة، أفتكشف نفسها وتعرفها بإسلامها هكذا؟!
وإن فعلت أتثبت له أنها تعرف المكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول يجلس مع صحابته في دار الأرقم، وقريش لا تعرف ذلك أفتدل هي عليه؟
هنا فكرت أم جميل بسرعة وقالت:
ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله.
لكنها في نفس الوقت تعرف من هو الصديق، فهو الرجل الثاني في الدعوة، وقد يكون في احتياج إلى شيء هام، ثم إنه يعلم أن أمه مشركة، ومع ذلك أرسلها إليها، فأسرعت المرأة الحكيمة، وقالت بلباقة:
إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟
قالت أم الصديق:
نعم.
فذهبت معها حتى دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فوجدته صريعًا ملازمًا الفراش في حالة خطيرة بين الحياة، والموت، فقالت فزعة:
والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإنني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
أعرض الصديق عن كل هذا، وكان له همًا واحدًا قال:
فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
احتارت أم جميل رضي الله عنها، أم الصديق واقفة، وستعرف خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهمست إلى الصديق:
هذه أمك تسمع.
قال الصديق مطمئنًا:
فلا شيء عليك منها.
ويبدو أن الصديق كان يرى قربًا من أمه للإسلام، فلم يرى بأسًا من ذلك؛ لأن أمه ما لبثت أن أسلمت، قالت أم جميل رضي الله عنها:
سالم صالح.
قال الصديق رضي الله عنه:
أين هو؟
قالت: في دار الأرقم.
قال الصديق رضي الله عنه في إصرار وعزم:
فإن لله عليّ أن لا أذوق طعامًا، ولا أشرب شرابًا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانتظروا حتى جاء المساء، وهدأت الرجل بمكة، وسكن الناس، وخرجت المرأتان بالصديق رضي الله عنهم، لا يقوى على السير، ولكنه يتكئ عليهما، سارا به، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تألم لما فيه، وأسرع إليه، وأكب عليه يُقَبّله صلى الله عليه وسلم، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فأسرع الصديق يُطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس، إلا ما نال الفاسق من وجهي.
ثم إن الصديق رضي الله عنه، وهو في هذا الموقف لم ينس دعوته، ولم ينس أمه أنها ما زالت مشركة، وها هي ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنوار النبوة على وجهه، فتاقت نفسه إلى إسلامها، قال:
يا رسول الله، هذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك، فادعها إلى الله، وادع الله لها، عسى الله أن يستنقذها بك من النار.
فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاها إلى الله، فأسلمت الحمد لله أسلمت رضي الله عنها، وعن ابنها، وعن زوجها، وعن أحفادها، وعن أولاد أحفادها.
كان هذا طرفًا من جهاد الصديق بمكة وبذله لروحه؛ فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاء لدين الله عز وجل، تعالوا نقلب صفحات من جهاده رضي الله عنه في المدينة المنورة. |