البحث
عفّته و حياؤه - صلى الله عليه وسلم-
عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (دعه فإنّ الحياء من الإيمان).(1) عن أنس قال: (لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم- زينب أهدت له أم سليم حيسا في تور من حجارة، فقال أنس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" اذهب فادع لي من لقيت من المسلمين، فدعوت له من لقيت، فجعلوا يدخلون عليه فيأكلون ويخرجون، ووضع النبي - صلى الله عليه وسلم- يده على الطعام فدعا فيه، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ولم أدع أحدًا لقيته إلا دعوته، فأكلوا حتى شبعوا، وخرجوا، وبقي طائفة منهم فأطالوا عليه الحديث، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- يستحيي منهم أن يقول لهم شيئا، فخرج وتركهم في البيت، فأنزل الله - عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)، قال قتادة: غير متحينين طعامًا، (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا)، حتى بلغ: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)).(2) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها، حدثني محمد بن بشار حدثنا يحيى وبن مهدي قالا: حدثنا شعبة مثله، وإذا كره شيئا عرف في وجهه).(3) الحياء غذاء الروح، وحياة القلب، كما أن الغيث حياة الأرض، ورواؤها، وبهجتها. وعلى حسب حياة القلب تكون قوّة خلق الحياء، فكلّما كان القلب أحيا كان الحياء أتم، وقلة الحياء من موت القلب والروح .(4) و لمّا كان الحياء بهذه المنزلة العظيمة من حياة الإيمان في القلب، واقترانه به ودوامه فيه، كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أعظم هذه الأمة حياءً، شهد له ربه – سبحانه- بهذه الصفة الكريمة في محكم تنزيله فقال: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ) [سورة الأحزاب : 53]. ومن تأمّل هذه الأحاديث الثابتة رأى كثرة حياء النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان جامعا ًبين نوعي الحياء الغريزي والمكتسب. ففي الغريزي كان أشد من العذراء في خدرها، وأما المكتسب فقد كان في الذروة العليا منه. وكلا النوعين محمود، مطلوب، وسبب لزيادة الإيمان؛ لأنه يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب، ونية، وعلم، فهو من الإيمان، ولكونه باعثاً على أفعال البر، ومانعاً من المعاصي، ومُعْفَىً من الفواحش، وناهيا عن المنكرات، فلا يأتي منه إلا خير(5). و ترجمت لنا سيرته العطرة حقيقة ذلك الحياء، وتمكّنه من خلقه وسلوكه العملي، في مواقف شتى، منها زواجه من زينب بنت جحش -رضي الله عنها-. فقد كان - صلى الله عليه وسلم- حديث عهدٍ بأهله، والأضياف في بيته قد حضروا وليمته، وطعموا حتى شبعوا، وظلّوا مستأنسين بالحديث في غفلةٍ عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم- وتكدّره من طول بقائهم، و هو يستحي أن يواجههم بأمر الخروج من بيته، و الانفراد بعروسه! حمله الحياء على أن يترك أخصّ حقوق نفسه في ليلة البناء بأهله، والشوق إليهم، وتحمّل مشقة الحرج من أصحابه الذين أكرمهم بضيافته، والتناول من مائدته، على أن يصارحهم بما يجول في خاطره، وما يعتمل في نفسه؛ إيثاراً للحياء، وحرصاً على توفير الراحة والانبساط لهم. فتولّى الرحمن – سبحانه- أمره، ورفع عنه ما أهمّه، وأنزل قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، يصدع بما للنبي - صلى الله عليه وسلم- من الحقّ العظيم من الاحترام والتوقير، والآداب المتعّينة له على أصحابه و أمته. ويدعونا في الوقت نفسه إلى الاقتداء به، والتحلي بهذا الخلق الفاضل، فمن استحيا من الله – سبحانه- حق الحياء رأى نعمه وآلاءه، واستشعر إساءته وتقصيره، وبادر بالخيرات، وترك المنكرات، ومن استحيا من نفسه عفّها وصانها في الخلوات، ومن استحيا من الناس كف أذاه عنهم، وترك المجاهرة بالقبيح والسيئات(6). (1) صحيح البخاري (24)، و مسلم (36).
(2) هذا لفظ مسلم، صحيحه ج2/ص1052، وللحديث طرق في الصحيحين.
(3) متفق عليه صحيح البخاري (3369)، ومسلم (2320).
(4) ينظر: مدارج السالكين (2/259).
(5) ينظر: فتح الباري ( ج10/ص522)، وشرح النووي: ج2/ص5، أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- في القرآن والسنة (1/485).
(6) ينظر : أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص 243).