البحث
رسالة إلى المبتلين والمصابين
إن الله تعالى قوي قادر، وهو حكيم رحيم.. يقدّر ما يشاء ويخلق ما يشاء لما تقتضيه حكمته، وهو تعالى يعلم ما يخرج من الأرض وما ينزل فيها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.. وهو ينزّل بقدر ما يشاء ويرفعه حين يشاء..
والله تعالى يغفر لصاحب المصائب المبتلَى ويرفعه بصبره الدرجات، ويعوض صاحبه في الآخرة بما هو أفضل..
لكن هذا للصابر، فالمصاب يكفّر الله تعالى به.. وأما رفع الدرجات والعوض العظيم بإذن الله تعالى فهذا منوط بالصبر فبه يؤجر، إذ نفس المصيبة لا يؤجر عليها، وإنما يؤجر على عمله.. كما قال الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله.
والله تعالى أمر بالصبر وجوبًا، وندب إلى الرضا استحبابًا.
وقد أقسم تعالى على أن يبلونا ليختبر صبرنا سبحانه فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة من الآية:155]، ثم خص بالبشارة الصابرين فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة من الآية:155].
فالقسمة السيئة أن يبتلينا تعالى فنجزع ونعصي فنُحرم نصيب الدنيا ونُحرم عوض الآخرة.
ثم لنعلم أن الدنيا بكل ما فيها لا تساوي عند ربنا تعالى شيئًا، وإنما متُعها كالأحلام والصور، لا أكثر من ذلك، وتُنسى مع أول نفحة من عذاب رب العالمين، وقد جاء في الحديث أنه حين يرى أصحاب العافية يوم القيامة أجر الله تعالى لأصحاب البلاء ودّوا أن لو قُرضت جلودهم في الدنيا بالمقاريض..
إن كل يوم نقترب إلى الله تعالى أكثر من الذي مضى، والأمر كل يوم يهون عما سبقه، واللقاء يدنو، فلماذا نستقبل هذا اللقاء بالمعصية ما دمنا كل يوم تقصر مدة الصبر المطلوبة منا حتى لقاء الله تعالى؟
ثم إن علم الله تعالى من عبده خيرًا، من الصبر والرضا والتعفف، فتح تعالى له من الأبواب والنعيم والتمتع واللذة ما يعوضه عما فقد، بل يتضاءل ما فقد بجانب ما عوضه تعالى.
يقول بعض عُبّاد السلف: "مساكين الملوك وأبناء الملوك، لو علموا ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"، وذلك متعة العبادة ولذة المناجاة.. بل قال بعضهم: "والله لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"، وذلك لنعيم قيام الليل، وكان معاذ بن جبل يقول عند موته: "اللهم إنك تعلم أني ما أحببت البقاء في الدنيا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر -يعني صيام أيام الحر- وقيام ليالي الشتاء -يعني لطولها- ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلق العلم".
والصبر لا يتحقق إلا بمعونة رب العالمين. قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ} [النحل من الآية:127]، فلا بد من التوكل، ولو صدق فيه لوجد أثرًا عظيمًا وخفّ عليه الأمر جدًا بإذن الله تعالى.
وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «ومَن يتصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ» (صحيح البخاري؛ برقم: [6470]).
والبعض قد يقنط أو يحبط فيستقبل البلاء بالمعصية، والخوف كل الخوف من المعاصي هو إصابتها محلًا في القلب قد يخسر به الكثير، فالذنوب جراحات ورُب جرح وقع في مقتل، والمقتل هو الزيغ وفقدان أصل الطريق الى رب العالمين.
ثم لا بد من للصبر والرضا من أمور:
أحدها: أن يثق في حكمة الله تعالى في كل قدره وشرعه، وأن الله تعالى لم يصبه بهذا جزافًا أو بغير قصد، بل هو المقصود لحكمة ورحمة، وبقدْر محدد، إلى أجل محدد يعلمه الله تعالى.
والثاني: أن يثق أنه لا تخلو أقداره تعالى من الرحمة كما أنها لا تخلو من الحكمة.
والثالث: أنه هو الذي أعطانا النعم وملّكنا إياها ولا نستحق عليه شيئًا بل هو محض تفضله، ومع هذا فيجزي بالصبر والرضا أجرًا بغير حساب.
والرابع: أن هذا الجسد تالف لا محالة، والمال ذاهب بيقين، ويبقى قلبه وروحه يرتفعان إلى حيث قسم تعالى لهما على قدْر همته وسعيه وقصده وتوكله.
الخامس: لو لم ينجع هذا مع المبتلى فليتذكر ذنوبه مع ربه، وأنه لو جازاه بها لأهلكه واستأصله، ولكنه تعالى جازاه ببعض الذنوب لا بكلها، فليحمد الله.
السادس: أن من العبوديات انتظار الفرَج، وإحسان الظن، والثقة في الله، واليقين فيه، والتوكل عليه، والرجاء في رحمته، والتعوض به عن كل ما فاته.
عافانا الله تعالى وجميع المسلمين.. فهو تعالى نِعم المدبر ونِعم الحكيم ونعْم الرحيم.. والله تعالى أعلم وأحكم.