البحث
تأخير العبادات إلى وقت الحاجة
تأخير العبادات إلى وقت الحاجة مفهوم خاطئ تسرب إلى عقول بعض شبابنا في عصرنا المنكوب بالمفاهيم الخاطئة التي غيرت مسار وجهته الصحيحة وجعلته يتردى كل يوم إلى مهاوي الشرور والآثام وأصبح عاجزًا عن النهوض بأداء العبادة في وقتها المطلوب بسبب وسوسة الشيطان وقوة سلطانه عليه فأصبحت العبادة حملًا ثقيلًا تُؤدى بشق الأنفس مجرد طقوس خالية من روح الإخلاص ومهابة المعبود.
ومن مظاهر تلبيس إبليس لهذا المفهوم الخاطئ أنه اتخذ صورًا متعددة حتى إذا نجا من واحدة تناوشته الأخرى، فبعضهم يرى أداءها بعد الانتهاء من مرحلة الزواج، وبعضهم يراها بعد الانتهاء من الدراسة، وثالث يراها بعد الخروج إلى سن المعاش، ورابع يرى أداءها في البيت -مثل الصلاة- بعد الانتهاء من العمل ومتاعبه، والخامس يراها بعد زواج الأولاد والتفرغ من مشاكلهم، وسادس يرى أداءها بعد الانتهاء من الرحلة العلاجية، وسابع يراها بعد أن يمن الله عليه بالتوبة النصوح، وثامن يراها بعد التخلص من ماله الحرام، وتاسع يراها بعد تغيير نوع عمله، وعاشر يراها من قضاء الله وقدره فلو شاء الله وفقه وإن لم يشأ فتلك مشيئته.
والفورية في فعل الخيرات من عبادات وغيرها من التكاليف الشرعية لم تكن محل خلاف بين الفقهاء؛ لأن النصوص الشرعية جاءت حازمة وحاسمة في هذا الشأن ولم تدع مجالًا للاختيار أو التردد أو التواني والكسل.
فقد سأل الصحابي الجليل عبد الله بن عمر النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا» ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي (صحيح البخاري:1/ 112 رقم 527).
تأمل أخي الحبيب في قوله عليه السلام: الصلاة على وقتها ترى أنها أحب الأعمال إلى الله تعالى وهذا معناه أن تأخير الصلاة بغير عذر -وفق العمل بمفهوم المخالفة وهو معمول به عند جمهور الأصوليين- مبغوض مكروه عند الله تعالى.
وإذا كان هذا في أمر الصلاة عامة فإن النصوص الشرعية حثت بكل حسم على المواظبة على آحاد الصلاة في وقتها وبينت فضل أدائها فقد اعتبر الرسول عليه السلام من فاته صلاة العصر بمثابة خسران الأهل والمال
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ العَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» (البخاري:1/115).
وعن فضل المسارعة للصف الأول، والتهجير، وصلاة العتمة والصبح قال عليه السلام: «لوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» (صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه:1/ 126 رقم 615).
وجاء في الحج عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا». قِيلَ فَمَا شَأْنُ الْحَجِّ؟ قَالَ: «يَقْعُدُ أَعْرَابُهَا عَلَى أَذْنَابِ أَوْدِيَتِهَا فَلَا يَصِلُ إلى الْحَجِّ أَحَدٌ» (السنن الكبرى للبيهقي:4/557 رقم 8702).
والزكاة دعا الإسلام إلى إخراجها إذا توافرت شروطها، ومع ذلك أجاز العلماء بعض تقديمها عن موعدها لتحقيق غرض مشروع كسد خلة المحتاجين أو مساعدة المنكوبين الذين تعجز الدولة عن مساعدتهم استئناسًا بما فعله النبي صلى الله عليه مع عمه العباس فعن عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ: «إِنَّا قَدْ أَخَذْنَا زَكَاةَ العَبَّاسِ عَامَ الأَوَّلِ لِلْعَامِ» (سنن الترمذي تحقيق شاكر ج3/54 وحسنه الألباني).
وفي قضاء رمضان استحب العلماء التعجيل بالقضاء قبل إدراك رمضان الآخر والذين استدلوا على جواز تأخير القضاء بما رواه الترمذي وَابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا قَضَيْتُ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا فِي شَعْبَانَ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "؛ فقد ناقش الإمام الشوكاني أقوال العلماء في الحديث وعقب عليها بقوله: "جَوَازَ التَّأْخِيرِ مُقَيَّدًا بِالْعُذْرِ الْمُسَوِّغِ بِذَلِكَ" (نيل الأوطار 4/ 278) وهذا هو الراجح؛ لأن الإنسان لا يدري أيدركه رمضان القادم أم لا؟ وهذا يتفق مع دعوة الرسول عليه السلام للمبادرة بالأعمال في قوله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ» (صحيح مسلم:4/2267 رقم 129).
ولا تنس أخي الحبيب أن تأخير فعل الخيرات يتناقض مع وصف المؤمنين الذين وصفهم الله بقوله: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} [الْأَنْبِيَاءِ:90] وقوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61].
قال العلماء المسارعة في الخيرات تحتمل وجهين:
الأول: أَنَّ الْمُرَادَ يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ أَشَدَّ الرَّغْبَةِ فَيُبَادِرُونَهَا لِئَلَّا تَفُوتَ عَنْ وقتها ولكيلا تفوتهم دون الاحترام.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يَتَعَجَّلُونَ فِي الدُّنْيَا أَنْوَاعَ النَّفْعِ وَوُجُوهَ الْإِكْرَامِ. (الرازي 23/284).
وقد حذر سلفنا الصالح من تأخير العمل وذكروا أن سببه الحقيقي يرجع إلى استخدام إبليس سلاح التسويف استخدامًا ماهرًا في حرمان الإنسان من المسارعة في فعل الطاعات.
روى الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ بِلَالَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: "عِبَادَ الرَّحْمَنِ يُقَالُ لِأَحَدِنَا: أَتُحِبُّ أَنْ تَمُوتَ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيُقَالُ: وَلِمَ؟ فَيَقُولُ: حَتَّى أَعْمَلَ، وَيَقُولُ: سَوْفَ أَعْمَلُ فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ عَمَلَ اللهِ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ عَرَضُ الدُّنْيَا" (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء أبو نعيم الأصبهاني:5/ 230)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "تَعَوَّدُوا الْخَيْرَ عَادَةً، وَإِيَّاكُمْ وَعَادَةَ السَّوَافِ مِنْ سَوْفَ إلى سَوْفَ" (شعب الإيمان:13/ 209).
ولنا في الشعر حكمة:
قال جعفر بن عون سَمِعْتُ مِسْعَرًا، يَقُولُ:
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ *** وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
وَتَتْعَبُ فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ *** كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَائِم
(حلية الأولياء وطبقات الأصفياء:7/ 220).
ومن كلام الحكماء: "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"، و"خير البر عاجله ".
وتذكر معي قول الرسول صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] فقد فهمت رضي الله عنها أن الآية يراد منها الَّذِي "يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عز وجل" فقال عليه السلام: «لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ). (انظر تفسير ابن كثير ط العلمية 5/ 418).
فإذا كان هذا حال من يتصدق ويصوم ويخاف عدم قبول عمله فكيف حال من يؤخر العمل إلى وقت الحاجة؟
أخي الحبيب: لعلك الآن أيقنت خطأ هذه المفهوم، فلا تغرنك صورته الشيطانية، وانهض لعبادة ربك متى سمعت النداء، وأَدِ واجباته متى حان وقت الأداء، واعلم أنك مطلوب فأحسن إجابة الطالب. فإنك لا تدري متى تُنادى، واعلم أن علامة العبد المطيع أن ينادى وهو على خير عمل، والعبد المسيء ينادى وقد تأخر عن العمل.