1. المقالات
  2. أعمال القلوب
  3. قناديل الحكم (5)

قناديل الحكم (5)

الكاتب : د. صفية الودغيري
تحت قسم : أعمال القلوب
1778 2016/12/07 2024/12/21

اصنَعْ لك فضاءً أرحب من فضائك الضيق، وتنفَّسْ نسمات الحرية بلا اختناق؛ كي تلتذَّ بمباهج الأفراح، وتزفَّ إلى مواكب المسرَّات، وتسعد بطُمأنينة النفس، والسياحةِ في رياض الإيمان، وتنعم بأنوار العلوم والمعارف، والتدبر في أسرار الكون والكائنات.

 

حبك لن يكون كبيرًا وعظيمًا إلا إذا حرَّك فيك شعورًا صادقًا وخالصًا، وبعَث بداخلك رسالةً عظيمة تسع أكثرَ من اثنين، وتحتوي أكثر من قلبينِ وعقلين.

 

ليست الفرصةُ دعوةً مجانية تبسُط على موائدها آمالَك العريضة وأطباق أحلامك في لحظة اشتهاء، وليست الفرصة لقاءً ساحرًا يرف له خاطرك ووجدانك، فتنتشي لذَّته كجرعات ساخنة من فنجان قهوتك كل صباح، بل أنت مَن تصنع الفرصة حين تُنتج وتُبدع وتبتكر، وإن انعدمت حولك الأسباب وذُقت المرار والعذاب، وأنت مَن تنجب الفكرة تلو الفكرة، وتشق لها طريقًا مُعبَّدًا كي تمضي في ارتقاء، وأنت مَن تسعى وتكافح بهمة ونشاط، حتى تدرك مطمحك الأسمى وتبلغ مبتغاك.

 

تظل الأماكن خالدةً في الذاكرة، تبعث فينا شجنَ الحنين إلى وصل الأحبة، بأشواق تتلهف إلى لقاءٍ يجمعنا على أرصفة العابرين وفي محطات الحياة وفصولها، وترحل بنا الذكريات الجميلة فنَسيح في فضاءٍ يُوحِّدنا، تتناجى فيه أرواحنا وتتآلف في رحلةٍ تصل ماضيَنا بحاضرنا.

 

أنت لا تحتاج إلى أن تحقِّق كل أحلامك كي تشعر بالسعادة والاغتباط، بل يكفيك أن تحقق حلمًا يخلِّد أثرَك الطيب وعملك النافع، ويبلغ رسالتك النبيلة التي تستحق أن تحيا بها سعيدًا، ويكفيك أن تمدَّ مَن حولك بشريان الأمل الذي انقطع، وتُقوِّي فيهم الطموح الذي انحسر، وتشُد أَزْرَهم بوصل أسباب الرجاء؛ كي يهبُّوا لتحقيق أحلامهم بعزيمة ونشاط.

 

حين يتحوَّل قلبك إلى زنزانة مظلمة، ستموت بداخلك المشاعرُ والفضائل الإنسانية، وسيختفي ضميرك الصاحي خلف قضبان المطامع المبتذلة والرغبات الدنيئة، حتى تصير عبدًا صاغرًا لأساطين المادة، خاضعًا لسلطان أشياخ السُّؤدد والمجد، ومسخًا بشريًّا هجينًا دخيلًا على أبناء جنسك وقبيلتك.

 

حين يذوب الألم في مجرى العروق الضيقة، تخرس الحروفُ والكلمات على الشفاه المطبقة، فيهيج في العيون بريقٌ صامت يستجدي الآمالَ الراحلة.

 

لا تزرَعِ الشوك في حدائق الطامحين، فتقطع براعمَ أحلامهم قبل أن تزهر على أغصانها، وتطفئ شموعَ أفراحهم وقناديل آمالهم قبل أن تشرق وتتوهج في سمائها.

 

صمتُك في وجه السفاهة حكمةٌ تريح ذوي النباهة، وصمتُك في وجه اللئام كفاية المحتاج إلى الأمان والراحة، تردعُ بحده غيَّ مَن أسرفوا في اللغو والضلالة، وتصُد مَن أغرقوا ألسنتهم في بحور النذالة والتفاهة، وصمتك في وجه أهل الغباوة رجاحةُ عقلٍ تنبو عن الغفلة والجهالة، وصمتك فطنةٌ تقطع بنصلها حبلَ الثرثرة وفضول الكلام والهذيان.

 

الكلمة في موطن الثقلاء وأهل الفتن والأهواء تتجرَّع المرارة، فألجِمْها بلجامٍ يوثقها بالحصانة والمناعة، وصُنْها عن كل فِرْية مستعارة، وارتَقِ بها منازل أهل السمو والفضيلة والكرامة، وارفَعْها إلى قمم أهل المجد والشهامة.

 

أيامك كالصور، ولكل صورة تقاسيم مختصة بها، وجمال آسِر، وجاذبية ألوان وأشكال تميزها، ولكل صورة تاريخ يُحدِّد هُوِيَّتها، وجغرافية خاصة بوجودها، ولكل صورة مكانة خاصة ومنزلة في الذاكرة، ومَشاهد تنتهي عند حدود فصلها وميقاتها، ومشاهد قد تستمرُّ فتربط وجودها بوجود من تماثلها في التجارِب والأحداث، ولكل صورة إحساسٌ مختلف، وشعور منفرد لا يتكرر.

 

إن استطعت أن تُغير من نظرتك الحسيرة، وتحررت من تصوُّرك الضيق للحدث والمشهد، وتخلصت من فلسفتك المعقَّدة، ونمطيَّتك الجامدة، فستشعر حينها أن الانتصار للحق أَولى من الانتصار لكرامتك ولاعتزازك بنفسك، فإذا اجتهدت فأخطأت، عليك أن تصحح أخطاءك، وإذا انحرفت عن المنهج الصواب، والمعتقد الصحيح، والطريقة المثلى، عليك أن تردع نفسك عن غيِّها وهواها، وإذا جانبت الحق، وجُرْت في الحكم، عليك أن تعود إلى التوسط والإنصاف والعدل، فلا تأخذك العصبيةُ والجهالة فتصدك عن قَبول القول الراجح، والإذعان لصاحب الدليل الذي يفيد العلم اليقيني، ولو خالفك الرأي.

 

إذا تغيَّر المعنى والمحتوى بداخلك، سيتغير كذلك شكل القالب والصورة، وستشعر حينها أن المعاني والآراء والأفكار البشرية لا تُصاغ لتوضع في قوالب ثابتة لا تتغير في الشكل والمحتوى، فهي ليست إيمانًا ثابتًا، أو يقينًا راسخًا، أو اعتقادًا جازمًا لا يقبل النقاش أو الخلاف أو الشك، بل الأفكار والرؤى والمفاهيم والنظريات هي اجتهادات بشرية، قابلة للتقويم والتصويب، والمعارضة والنقد، والقَبول والرفض، وهي تتغير بتغير الزمان والمكان والواقع.

 

إننا لا نتكرر، كما أن الأيام لا تتكرر في كتاب الحياة، وإننا نشبه صفحاتنا حين تفتح ثم تطوى طيَّ الكتاب، ونشبه شموعنا الموقدة في سراج الحياة، ونشبه الشمس عند انبعاثها وانبساطها على الأرض، يسطع نورها فيتوهَّج ثم يخبو ببطء ويغرب، أو كأننا إيماضُ برقٍ أضاء الكون ثم أفل، أو ثغر تبسَّم للدنيا باغتباط ثم أطبق على همٍّ وكدر.

 

مهما مضى من فُصول عمرك، تظل ذكرياتك الجميلة هي شهد ماضيك وحاضرك، وهي سجل تاريخك الذي يمتدُّ من نقطة الابتداء حتى نقطة الانتهاء، وهي نبضاتك التي تطرق صدرك دون توقف، وأنفاسك التي تسري في عروقك، وتغاريدك الشادية على عرش قلبك، وبسماتك التي تتورَّد على وجنتَيْك لحظات فرحك، فتمسح عن خدك تجاعيدَ الحزن، وتجفف دمعاتك حين تنسكب من الألم والقهر.

 

مَن جمع بين جمال الظاهر والباطن، فقد جمع بين الحُسْنيينِ، وأدرك قيمة الجمال الحقيقي حين يحتوي اللب واللباب، وغنم الصدف البرَّاق وحاز الدر والجوهر.

 

إن شعورك بالانهيار ليس بداية السقوط، بل هي حالة مؤقتة تفصل عاطفتك الجياشة عن رباط العقل والحكمة والاتزان، فتضعف قواك وتنكسر، ثم تنتقل بعدها إلى حالة من القوة وفورة النشاط، والشعور بالاستقرار العاطفي والنفسي، فتفتح أمامك آفاقًا جديدة تحث همتك على الإنجاز والنجاح.

 

إذا اكتملت الحقيقة في عقل رجل واحد، واستأثر بالعلم والمعرفة كِبرًا وخُيلاء، لم تنفَعْه وإن بلغ منتهاها وأدرك غايتها، فكانت عليه خزيًا ووبالًا.

 

إن لبَّ اللسان البليغ أن يسد خوارمه برأي سديد، ويُوثِق لجامه بعقل رشيد، ويُصغي إلى حكمة قلبٍ نَبيهٍ، محبٍّ صادق الإحساس والشعور النبيل، قبل إفصاحه عما حواه الصدر من الفكر السامي، وما ارتقاه من درجات العلم النفيس.

 

إذا اغترف اللسان من وعاء قلبه النتانة والقذارة، نطق بالهوى فأصاب الناسَ بالقذى والشرر، وقذف أهل الاستقامة والصلاح بالطوب والحَجَر، فصار حالُه كالعُود الرطيب إذا تيبس وانكسر، وغصن البان إذا جفَّ واحترق، والماء الحلو إذا أصابه الكدر، ونضب مَعِينُه الصافي وانحسر.

 

تغيب الحقيقة ويتأخَّر ظهورها؛ لأننا لا نبصر في مرايا الروح والبصيرة، فتعكس مرايا الجسد الحقيقة وهمًا وسرابًا، وخيالًا وظلًّا باهتًا كلَوْنِ الخريف على الأوراق ينتحب، وكنورِ الشمس على مشارف الغروب ومغيب الشفق.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day