البحث
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قلنا: كانت سنة نبينا هي التعبير بصدق عما تكن صدورنا من إحساس، نخرج عن هذا الأصل أحيانا لمصلحة تأليف بين من نعاشر من أهل وناس. وبقيت لنا بعض الأمثلة النبوية في مخالطته عليه السلام لأهله والناس، نضربها لنتأمل ونتعلم كيف نعبر عن رائع الشعور ورائق الإحساس.
(1) كيف عبّر عليه السلام عن حبه لأمّه أمام جمع من الأنام؟
- عن أبي هريرة قال: "زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» (صحيح مسلم [1622]).
- قال النووي في شرحه: "قوله: "فبكى وأبكى من حوله"، قال القاضي: بكاؤه صلى الله عليه وسلم على ما فاتها من إدراك أيامه، والإيمان به". انتهى (صحيح مسلم بشرح النووي / كتاب: الجنائز / باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في / رقم [1622]).
حول بعض المعاني نطوّف:
كانت أم نبينا الكريم من أهل الكفر وكذا ماتت عليه، ولو استحقت الإيمان لهداها الله بحكمته إليه؛ ولذا لم يأذن الله لنبينا أن يسأل لها مغفرة لديه، فما كان لمؤمن أن يسأل مغفرة الله لكافر وإن عزّ عليه هكذا بكى الحبيب شفقة على أمه وفاضت بالدمع كلتا عينيه، فاستأذن أن يزور قبرها لفطرة أودعها الله بين جنبيه وصرّح الحبيب لأصحابه بلسانه ودمع عينه، أنه محب شفوق على أمه رغم موتها على غير دينه فعلمهم أن محبة بعض الخلق والتعبير عنها من خلق الله في الفطر، لا تعارض ولاء ولا براء جاءنا به شرعنا وأمر.
إسقاطات حياتية وتطبيقات عملية:
الأحاديث والآيات نتدين بمعرفتها، وعند اللزوم يتعين علينا اجترارها، والأوجب بل الغاية من نزولها من الله على خلقه أن يتعبدوا له بممارستها، وفي مواقف حياتنا نعمل على تطبيقها، ولن يتسنى لنا ذلك إلا بفهم معانيها، ومحاولة استشعار ما هو مراد الشارع بما جاءنا فيها، ومثالنا هذا الحديث الذي يغلب ذكره في كتب فقه الجنائز، يُساق هنالك ليتعلم الناس أن زيارة القبور في شرعنا جائز، وأن من يداوم على زيارتها للموت لا بد أنه ذاكر، وكذا تعلمنا أن طلب الرحمة أو الاستغفار لا تصح لكافر، وإن كان الحبيب من ربّه هو الطالب، ومن هذا الحديث نتعلم كيف أن الشفوق على كافر لا يأثم، خاصة إذا كان من أهله وذوي القربة والله بخلقه أعلم.
فمالنا لا نشفق على ذوينا من أصحاب المعاصي، نأنفهم ونعاديهم دون أن نبدي ولو قليلاً من الحرص على هداهم
فلا نعمد إلى التعبير لهم عن ذلك بلسان الحال وتكرار القال: كما فعل الحبيب عند مرض عمه أبي طالب في سياقة الموت وقبل الاحتضار:
-عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية:" يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب" فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (صحيح مسلم [35]).
** انظرن كيف يدعوه بـ: «يا عم» متوسلاً بحنانه إليه، وثنى فكرر ذلك كثيرًا كثيرا عليه، وثلث فأقسم بعد موته كافر ليستغفرن ما لم يُنه لشفقة ومحبة مبعثها فطرة بين جنبيه، لعم له قد ضمه صغيرًا يتيمًا أنشأه وأحبه وربّاه، وبذل وسعه يحميه فيدعو الحبيب إلى دين سيده مولاه، ثم انظرن كيف أن الرحمن لم ينهه عن حبه ولا لامه على شفقة له في قلبه، بل وصف حاله في القرآن بقوله: {مَنْ أَحْبَبْتَ} رغم وصفه لذلك المحبوب أنه: "من أصحاب الجحيم".
** والسؤال:
كيف هي حالنا مع ذوينا العصاة -وكأننا معصومون-!
-هل نترحم على من مات منهم ونطلب له المغفرة؟
-هل نبدي حرصنا على هداهم بشفقة وحنان ولين جانب ومعاملة جميلة آسرة؟
- وما حال تعبيرنا عما تكن صدورنا لعشيرتنا الأقربين، ولو بدمعة عين أو دعاء بصلاح أمام قوم لنا سامعين؟
متمثلين قول الحبيب في حضور قوم أو في مغيب: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».