والغيبة شهوة ولا ريب؛ ولتلك الشهوة لذة تقارب لذة الطعام الشهي والتمتع باللحم الطيب؛ إنها لذة تغلف حقيقة هذا الطعام الفاسد وتحول بين المرء وبين إدراك مدى سوئه وضرورة التقزز والاشمئزاز من مجرد تذوقه فلا يلحظ أثناء تناوله أنه ينهش لحما ميتا؛ {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات:12]، بالطبع لا أحد يحب ذلك.
لا يوجد شخص طبيعي يحمل شهوة الغيلان الأسطورية التي تتغذى على لحوم البشر؛ إن كان ذلك فلماذا لا تتحقق تلك النتيجة الطبيعية التي تلت هذا المثال القرآني؟
لماذا لا تتحقق {فَكَرِهْتُمُوهُ}؛ بل الحقيقة أن ضد ذلك هو ما يحدث؛ نحب الغيبة ونشتهيها وما أصدق وصف العامة لها بأنها فاكهة المجالس.
الجواب هو تلك اللذة؛ لذة تنتابك حين تعين نفسك حكَما على غيرك؛ وتقرر أن تطلق الأحكام على هذا وذاك..
لذة العُلُو وتعاظم النفس؛ الآخرون دوما جهلة مخطئون ومقصرون بل وربما فاسقون معتدون..
النتيجة المباشرة والسريعة التي تتبادر للأذهان تتلخص في جملة بسيطة؛ أنا طبعا لست مخطئا ولا مقصرا مثلهم وبالطبع لست فاسدا أو فاسقا؛ أنا نموذج الصلاح وعنوان الهداية وعلامة التقوى وخزانة العلم ومفتاح الخير والبر..
حتى لو لم يصرح ناهش غيره للمستمع بهذه المعاني؛ فيكفي أنه يشعره بها ويلقيها في روعه من خلال تلك المتلازمات:
هم عاصون إذاً فأنا الطائع.
هم مبطلون فأنا المحق.
هم ناقصون فأنا المكتمل.
شعور ممتع هو… أليس كذلك؟!
المشكلة أنه مورث للإدمان؛ إدمان لهذا العلو القائم على رفات الآخرين الذين يشكل نقدهم الدائم والمستمر وقودا لبقاء هذا الشعور الذي أدمنه صاحبه وصار تجارته الرائجة وصار من ملوك سوقه.
والمشكلة الأكبر أنه كأي مدمن طبيعي لن تكفيه ذات الجرعة ولن ترضيه قضمة أو تشبعه نهشة؛ سيستزيد ويستزيد؛ وسيستكثر ويستمر في تناول وقود علوه من خلال التربص بالآخرين ونهشهم الدائم حتى ينسى في نهاية الأمر وجود مرآة تستحق أحيانا أن ينظر إليها ليُقيِّم أهم شخص ينبغي أن يقيِّمه ويحكم عليه…. نفسه!