وإذا كان الكبر من أسوأ الخصال وأشنعها، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه، فإن التواضع من أحسن الشمائل، وأجل ما تزين به العبد في تعامله مع الخلق.
وليس للكبر تعريف أفضل ولا أدق مما عرفه به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه "بطر الحق وغمط الناس" وللسلامة منه يلزم العبد أن يقبل الحق من كل من قال به، وألا يحتقر الناس، أو يزدريهم، أو ينظر إليهم بعين التنقص، ولا يمكن أن يتحقق شيء من ذلك إلا إذا تخلص المسلم من أدران العجب والغرور، وتضخم الأنا، وكثرة الحديث عن النفس، وحب المدح، وإدمان الشهرة، والاستكثار من الأتباع.
وقد يظن أحدنا أن ذلك سهل ويسير، لكن حقيقة الأخلاق لا تظهر إلا إذا وضعت موضع الاختبار، وكم من امرئ يظن نفسه حليما كريما متواضعا حسن الأخلاق وعف اللسان، فإذا اختبرت أخلاقه، وبليت سرائره، وتعرض لاختبار صعب أو محنة كاشفة بان معدنه الحقيقي، وظهر مكنون النفس وما انطوت عليه الضمائر.
وهذه قصة جميلة حكاها أبو بكر ابن العربي في كتابه أحكام القرآن 1 / 248، 249 وتستحق أن تقرأ ويعتبر بها حيث قال:
"أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ غَيْرَ مَرَّةٍ: وَصَلْت الْفُسْطَاطَ مَرَّةً، فَجِئْت مَجْلِسَ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ، وَحَضَرْت كَلَامَهُ عَلَى النَّاسِ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِي أَوَّلِ مَجْلِسٍ جَلَسْت إلَيْهِ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ وَظَاهَرَ وَآلَى.
فَلَمَّا خَرَجَ تَبِعْته حَتَّى بَلَغْت مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فِي جَمَاعَةٍ، فَجَلَسَ مَعَنَا فِي الدِّهْلِيزِ، وَعَرَّفَهُمْ أَمْرِي، فَإِنَّهُ رَأَى إشَارَةَ الْغُرْبَةِ وَلَمْ يَعْرِفْ الشَّخْصَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْفَضَّ عَنْهُ أَكْثَرُهُمْ قَالَ لِي: أَرَاك غَرِيبًا، هَلْ لَك مِنْ كَلَامٍ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَفْرِجُوا لَهُ عَنْ كَلَامِهِ. فَقَامُوا وَبَقِيت وَحْدِي مَعَهُ. فَقُلْت لَهُ: حَضَرْت الْمَجْلِسَ الْيَوْمَ مُتَبَرِّكًا بِك، وَسَمِعْتُك تَقُولُ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَقْت، وَطَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَقْت.
وَقُلْت: وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ وَقَبَّلَ رَأْسِي، وَقَالَ لِي: أَنَا تَائِبٌ مِنْ ذَلِكَ، جَزَاك اللَّهُ عَنِّي مِنْ مُعَلِّمٍ خَيْرًا. ثُمَّ انْقَلَبْت عَنْهُ، وَبَكَّرْت إلَى مَجْلِسِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَأَلْفَيْته قَدْ سَبَقَنِي إلَى الْجَامِعِ، وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ.
فَلَمَّا دَخَلْت مِنْ بَابِ الْجَامِعِ وَرَآنِي نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَرْحَبًا بِمُعَلِّمِي؛ أَفْسِحُوا لِمُعَلِّمِي، فَتَطَاوَلَتْ الْأَعْنَاقُ إلَيَّ، وَحَدَّقَتْ الْأَبْصَارُ نَحْوِي، وَتَعْرِفنِي: يَا أَبَا بَكْرٍ يُشِيرُ إلَى عَظِيمِ حَيَائِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَوْ فَاجَأَهُ خَجِلَ لِعَظِيمِ حَيَائِهِ، وَاحْمَرَّ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ طُلِيَ بِجُلَّنَارٍ قَالَ: وَتَبَادَرَ النَّاسُ إلَيَّ يَرْفَعُونَنِي عَلَى الْأَيْدِي وَيَتَدَافَعُونِي حَتَّى بَلَغْت الْمِنْبَرَ، وَأَنَا لِعَظْمِ الْحَيَاءِ لَا أَعْرِفُ فِي أَيْ بُقْعَةٍ أَنَا مِنْ الْأَرْضِ، وَالْجَامِعُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَأَسَالَ الْحَيَاءُ بَدَنِي عَرَقًا .
وَأَقْبَلَ الشَّيْخُ عَلَى الْخَلْقِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا مُعَلِّمُكُمْ، وَهَذَا مُعَلِّمِي؛ لَمَّا كَانَ بِالْأَمْسِ قُلْت لَكُمْ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلَّقَ، وَظَاهَرَ؛ فَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَقُهَ عَنِّي وَلَا رَدَّ عَلَيَّ، فَاتَّبَعَنِي إلَى مَنْزِلِي، وَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا؛ وَأَعَادَ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنَا تَائِبٌ عَنْ قَوْلِي بِالْأَمْسِ، وَرَاجِعٌ عَنْهُ إلَى الْحَقِّ؛ فَمَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ حَضَرَ فَلَا يُعَوِّلْ عَلَيْهِ. وَمَنْ غَابَ فَلْيُبَلِّغْهُ مَنْ حَضَرَ؛ فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا؛ وَجَعَلَ يَحْفُلُ فِي الدُّعَاءِ، وَالْخَلْقُ يُؤَمِّنُونَ.
فَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى هَذَا الدِّينِ الْمَتِينِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْعِلْمِ لِأَهْلِهِ عَلَى رُؤوسِ الْمَلَإِ مِنْ رَجُلٍ ظَهَرَتْ رِيَاسَتُهُ، وَاشْتُهِرَتْ نَفَاسَتُهُ، لِغَرِيبٍ مَجْهُولِ الْعَيْنِ لَا يُعْرَفُ مَنْ وَلَا مِنْ أَيْنَ، فَاقْتَدُوا بِهِ تَرْشُدُوا"