يتميَّز الغراب بذكائه العجيب وقدرته على تفكيك بعض العمليات المعقَّدة، والعرب تسمي الرجل الذكي غراباً، وهو يحفر في ظاهر الأرض أحياناً ليخفي طعاماً في مخبأ، وقد يموّه بفتات الحصى، ولذا عبَّر القرآن في قصة قابيل وهابيل بـقوله: {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ} [31:المائدة]، ولم يُعبِّر بالدفن، فالدفن أعمق.
الاقتباس من الغراب يؤكد أن القصة تتعلق بمرحلة متقدمة من حياة البشر، وقبل أن تتسع دائرة التجارب والخبرات والأعراف المستقرة لدى الأمم.
قال أبو مسلم الأصفهاني: "عادة الغراب دفن الأشياء، فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلَّم ذلك منه".
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدفن موتاه على اختلاف الشرائع والموروثات في سائر الأمم.
الفيل قد يُغطي موتاه بفروع الأشجار، وكذلك قرود الشمبانزي والزرافات.
التقط قابيل النادم على قتل أخيه، المتحيِّر في كيفية التعامل مع الجثة، حتى ورد أنه كان يحملها معه، التقط فكرة الحفر في الأرض لدفن أخيه من غرابٍ كان يحرث ويفتش في التراب، وليس في القرآن ما يدل على أن الغراب كان يدفن غراباً آخر، ولكن هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وجمع من السلف والمفسِّرين: أن الغراب كان يواري غراباً آخر ميتاً.
هل علم الطيور اليوم يُسعف في هذا المضيق؟
في موقع الـ BBC العربي: سلوكيات فريدة لطائر الغراب تجاه الموت.
وفي التقرير: تجتمع طيور الغراب حول موتاها، أما الأسباب وراء ذلك فهي مذهلة حقاً، المعروف عن الغربان أنها تتصرف بشكل غريب حول الطيور النافقة من نفس جنسها، فهي تجتمع حولها وتصيح بصوتٍ عالٍ!
أُجريت سلسلة دراسات بقيادة (جون مارزلوف) من جامعة واشنطن في سياتل، وكشفت تلك الدراسات أن الغربان تستذكر شخصاً يُشكِّل خطراً لها، وهي تصيح بصوتٍ عالٍ عند رؤية ذلك الشخص، ولسنين عديدة!
(كايلي سويفت)؛ ضمن الفريق من جامعة واشنطن تقول: تكشف التجربة أن الغربان تنظر إلى الموت -على الأقل جزئياً- باعتباره لحظة قابلة للتعلُّم؛ لتستعير منه شيئاً محسوساً، إنها دلالة على وجود خطر والخطر يجب تفاديه.
الدراسة نشرت في مجلة (سلوك الحيوان)، وفيها: اكتشف باحثون أن طيور القيق -وهي من نفس عائلة الغرابيات- تقيم ما يشبه جنازة عندما ترى أحد أفرادها ميتاً.
الغربان ضمن مجموعة صغيرة يعرف عنها تعرفها على الطيور الميتة من نفس نوعها، أو ربما إقامة حداد عليها!
من الأفضل عدم التسرُّع في سرد الاحتمالات العلمية لتفسير النص القرآني قبل أن تصبح حقيقة واضحة، ومن الأفضل عدم التسرُّع في نفيها لمجرد أنها لا تنسجم مع تكوين عقلي لفردٍ أو فئةٍ من الناس.
نحن أحياناً ننكر أشياء تاريخية لأنها في نظرنا (غير معقولة)، ثم نُسلِّم بأشياء غريبة لأن العلم يقررها والتجارب تثبتها!
فكرة أن يدفن الغراب غراباً آخر ليست مناقضة لقوانين العقل.
بل هي أقرب إلى دلالة النص القرآني، فهي تُفسِّر قول القاتل: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي} [31:المائدة].
فالتناظر بين الأنموذجين يرجِّح أن الغراب اهتدى لدفن غرابٍ آخر، بينما قابيل عجز أن يفعل ذلك.
حين يقول النص: {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا} [31:المائدة]، فهذا يحتمل أن يكون الأمر تدبيرًا إلهيًا محضًا متصلًا بالمرحلة الأولى من حياة البشر ونقص تجربتهم.
ويرى الأصمّ: أن الله بعث غرابًا يحثو التراب على المقتول، وهو هابيل، وهذا وإن كان غريبًا إلا أنه لا يتعارض مع ظاهر النص.
هل سلوك الطيور والحيوانات يتطوَّر عبر الزمن؟ وهل ينقص أو يتراجع؟
الأمر يحتاج إلى (بحث!).
وحين يقول: {يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [31:المائدة]، فهو لا يعني الحفر، بل تحريك ظاهر الأرض برجله.
كلمة (البحث) اليوم واسعة الانتشار جداً في الحياة العلمية والعادية والشبكات الاجتماعية، الاستخدام القرآني لها ملهم؛ لأنه يدل على استخدام الملاحظة والنظر في البحث عن حلول لمشكلات قائمة أو أسئلة محيرة؛ خاصة وقد جاءت في سياق التعلُّم.
ويدل على توسيع دائرة البحث للاستفادة من بني الإنسان، ومن الطير والحيوان، والبحث في الأرض كل الأرض!
الغراب عند العرب طائر شؤم ويسمونه: (غرابُ البَيْن)، لكنه في القرآن طائر ذكي ملهم للإنسان، وفي العلم هو طائر وَفيٌّ؛ يحزن على موتاه، ولا يقتل نظيره.
الإنسان يقتل ويندم، ويورثه الندم عجزاً وحيرة، ويُحَمِّل بعض تبعات جريمته لغيره!