البحث
«اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور»
تحت قسم :
أعمال القلوب
2137
2017/06/28
2024/11/18
المؤمن عند الفتن: الحمد للّه يهدي من يشاء فيوفقه بفضله، ويضل من يشاء فيخذله بعدله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه. أما بعد فقد روى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» 1. قال الإمام السندي في حاشيته: "والكور لف العمامة وجمعها والحور نقضها، والمعنى الاستعاذة بالله من فساد أمورنا بعد صلاحها كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس" (حاشية السندي على النسائي). وفسّر الإمام الترمذي الحور بعد الكور بالرجوع من الإيمان إلى الكفر أومن الطاعة إلى المعصية. وقال المباركفوري: "أي النقصان بعد الزيادة و فساد الأمور بعد صلاحها" (تحفة الأحوذي، شرح جامع الترمذي، لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري). وقال المازري: "معناها أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها"، يقال: "كار عمامته إذا لفها، وحارها إذا نقضها". ولاشك أنها جميعاً تصب في معنى واحد، وهو تبدل حال المؤمن من الحسن إلى السيئ، وضعف إيمانه، ونقصان عمله الصالح الذي اعتاد عليه. وقد أمر الله عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن إبطال أعمالهم بمعصيته ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهََّ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم يا مقلِّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك» (رواه الترمذي وأحمد والحاكم وصححه الألباني). وقد تنوعت الفتن في هذا العصر، واشتدت فتن الشهوات والشبهات، منها فتن العقائد بانتشار الفرق والمذاهب الباطلة وكثرة الخلاف والفرقة بين المسلمين، ومنها فتن المال والدنيا التي زحفت بجميع زينتها وسحرها، ومنها فتن الأهواء والأفكار الدخيلة الفاسدة التي يسعى لترسيخها بعض المأجورين وأصحاب المصالح الدنيويه الرخيصة، ومنها تسلُّط أعداء الدين وتكالبهم على أمة الإسلام بإشعالهم نار الحرب، وبما يتعمدونه من بث الشبهات وإثارة الشك في تعاليم وقيم ديننا الحنيف وإلصاق تهم التخلف والرجعية به، وإلباسهم في المقابل مناهجهم الدخيلة وأفكارهم الهدامة ثوب العلم والتقدُّم م ما جعل كثيراً من شباب الإسلام يغتربهم ويسير ورائهم، ولا شك أن من أعظم الفتن وأشدها شرّاً وخطراً على الإسلام وعلى المسلمين فتنة الهرج والقتل التي استحرت بين المسلمين، فقد سفكت الدماء، وأزهقت الأرواح، واستباحت الحرمات. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «ويل للعرب من شر قد اقترب فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك فيهم يومئذ بدينه كالقابض على الجمر» (رواه الإمام أحمد في المسند). وما يحدث في زماننا من الفتن العظيمة والابتلاءات الشديدة في بعض البلاد، قد يجعل بعض الشباب المسلم يتردى وينقض أعماله الصالحة بأعمال سيئة، ومنهم من قد يضعف إيمانه فيهجر المساجد ودور العبادة، أو يهجر إخوانه المؤمنين ويبعد عنهم، ومنهم من قد ينزلق ويتردى في ظلمات الذنوب والمعاصي، فقد نسمع أحياناً عن أخٍ قد تردى هنا، أو أخت نزعت عنها حجاب العفاف هناك وتعرّت من لباس الحياء، وآخر كان متع هدا لكتاب ربه يعمر به مجالسه وينير به ظلام ليله فتركه وهجره، وآخر كان لا يستمع للموسيقى والغناء فما باله اليوم صار عليها من المدمنين. ولست أعني هنا الغافلين من الذين لاخلاق لهم ولا أقصدهم أولئك الذين لا يصلون ولايزكون ولا يعبدون الله أبداً". وما أكثرهم في هذا الزمان؛ فهؤلاء قد ضرب الله لهم مثلاً في كتابه الكريم قال سبحانه: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]. وفي التفسير الميسّر: "ولو شئنا أن نرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا، ولكنه ركن إلى الدنيا واتبع هواه، وآثر لَذاته وشهواته على الآخرة، وامتنع عن طاعة الله وخالف أمره. فمثل هذا الرجل مثل الكلب، إن تطرده أو تتركه يخرج لسانه في الحالين لاهثاً". وقال الإمام البغوي في هذه الآية: "إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب...". ولئن لم يتعهد هؤلاء أنفسهم ويثوبوا لرشدهم ويتوبوا لربهم، يوشكوا أن يخسروا الدنيا والآخرة. واعلم أخي أن الابتلاء من سنن الله تعالى لعباده المؤمنين ليتبين له الذين صدقوا ويعلم الكاذبين: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهَُّ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2]. ولأن عبودية الله وحده هي غاية خلق العباد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:65]، اقتضت منا هذه الغاية أن تكون عبوديتنا لله تعالى في السراء والضراء، وفي اليسر والعسر، وفي المحاب والمكاره، وفي جميع الأحوال، فالمسلم الصادق هو الذي يستقيم على طاعة ربه مهما اشتد البلاء، ومهما كثرت الفتن وتلاحقت المحن، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم جزاء المتمسك بدينه الصابر عليه في مثل هذه الأ يام حين قال: «إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين»، قال: يا نبي الله منا أو منهم؟ قال: «بل منكم». كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر قال: «اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم وسوء المنظر في الأهل والمال»، وفي بعض الروايات الكون بالنون بدل الكور" (رواه الإمام مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني). ولا شك أن الفوز الحقيقي لمن أنجاه الله من الفتن والبلايا فيخرج من هذه الدنيا سالماً إلى جنة عرضها السماوات والأرض قال سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:586]. ومن أهم أسباب الفوز وضمانات النجاة من المحن والفتن: - التوبة الصادقة وأن يسعى المسلم قبل كل شيء لإصلاح نفسه وإنقاذها والمقربين من أهله وعشيرته قال تعالى: {إنَّ اللهََّ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهَُّ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد:55]. وأن يتمسك بدينه ويعض عليه بالنواجد، ويواظب على صلاته وجماعته، وعلى ما اعتاده من تلاوة لكتاب الله، ومن ذكر ودعاء، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، و كل أعمال البِرّ والتقوى، وأن يبعد عن محارم الله ويجتنبها، ويأخذ بأسباب الثبات حتى الممات. - أن يجتنب المؤمن كل الفتن ويبتعد عنها وخاصة منها تلك الفتن الملتبسة التي لا يعلم الحق فيها، فيجتنبها بأي ملجأ، ويتجنب الدخول فيما لم تتبين عواقبه، وأن يتحلى بالصبر والحكمة ويحذر أن تأخذه العاطفة البعيدة عن العقل، أو تجرفه المثيرات من وسائل الإعلام، ومن الشباب المتحمس الذي لا علم له، والذي لايقيس العواقب، «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأً أو معاذاً فليعذ به» (رواه البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي وابن حبان). - الرجوع إلى علماء السنة، ولزوم مجالسهم والسير على خطاهم، واستفتاءهم في كل ما يطرأ علينا، وخاصة في الحوادث والوقائع المستجدة قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهَُّ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آلِ عمران:7]. فلا يعلم طريق الحق عند الفتن إلا العلماء فلا بد من إرجاع الأمر إليهم، قال الحسن البصري: "إن الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل". - التفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى، فلا تخلص من الفتن بكل أنواعها ولا نجاة منها إلا بالعلم، "ومن لا يعرف الشر يقع فيه". - الإقبال على العبادة قال صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إليَّ» (رواه مسلم)، قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس. - الإكثار من الدعاء والتضرُّع لله تعالى قال صلى الله عليه وسلم: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها»، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم» (رواه البخاري ومسلم). وقال تعالى: {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهََّ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال من الآية:56]. اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأجمع كلمتهم على الحق والهدي المبين، وأعنهم على طاعة الله ورسوله، والحمد لله ربّ العالمين.