البحث
هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا؟ ولماذا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد رسول الله، وأترضى عن الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، وبعدُ: هَمُّ الدعوة إلى الله ثقيلٌ، وتحمُّل أعبائها أثقل؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5]، والقرب من الناس وحبهم ومخالطتهم وتحمل آذاهم والصبر على بلائهم وبلواهم والشفقة عليهم، تضفي بظلالها على صاحب الدعوة فتؤثِّر في نفسه وجسده، فكيف بأثر ذلك على من هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، الذي قال الله تعالى عنه: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وقال عن نفسه: ((أَنَا أَوْلَى بِالمؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ))[1]، وكيف بأثر ذلك على من يحمل همَّ هدايتهم، ويخاف عليهم النار؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [فاطر: 8]، ومن هو حريص عليهم، بهم رؤوف رحيم؛ من وصفه ربه فقال: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، كلُّ ذلك أثر بجسد رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، وهو يلقى ربه بعبادة الصلاة، التي قال عنها: ((أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ، الصَّلَاةَ))[2]، وهي قرَّة عينه بأبي هو وأمي؛ فقال: ((وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ))[3]، ومع ذلك كله كان يصلي بعض نوافله وهو جالس؛ لأن جسده الشريف لا يقوى على حمله، والسبب ليس المرض أو غيره؛ وإنما هموم الناس، حمَّلوه من أثقالهم فصيَّروه شيخًا محطومًا، فصلوات ربي وسلامه عليه، كم أُتعب وأثقل بهموم أمته وأعبائها! روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ قَاعِدٌ؟ قَالَتْ: "نَعَمْ، بَعْدَمَا حَطَمَهُ النَّاسُ"[4]، وبلفظ: "أَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فِي رَكْعَةٍ؟ قَالَتْ: "المفَصَّلَ"، قَالَ: قُلْتُ: فَكَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا؟ قَالَتْ: "حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ"[5]. قال ابن سيده (ت: 458هـ): الحَطْمُ: الْكسر فِي أَي وَجه كَانَ، وَقيل: هُوَ كسر الْيَابِس خَاصَّة، حَطَمَه يَحْطِمُه حَطْمًا، وحَطَّمَه، فانحَطَم وتحَطَّم، والحِطْمَةُ والحُطامُ: مَا تحَطَّمَ من ذَلِك، وصعدة حِطَمٌ، كَمَا قَالُوا: كسر، كَأَنَّهُمْ جعلُوا كل قِطْعَة مِنْهُ حِطَمَةٌ [6]. قال أبو عبدالله بن أبي نصر محمد بن فتوح الحَمِيدي (ت: 488هـ): وهو كنَايَة عَن كبره فيهم، وَيُقَال حطم فلَانًا أَهله، إِذا كبر فيهم كَأَنَّهُمْ رُبما حملوه من أثقالهم فصيروه شَيخًا محطومًا[7]، وإليه ذهب ابن الجوزي(ت: 597هـ)[8]. قال النووي: (يُقَالُ حَطَمَ فُلَانًا أَهْلُهُ، إِذَا كَبُرَ فِيهِمْ، كَأَنَّهُ لَمَّا حَمَلَهُ مِنْ أُمُورِهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ وَالِاعْتِنَاءِ بِمَصَالِحِهِمْ، صَيَّرُوهُ شَيْخًا مَحْطُومًا)[9]. قال السندي: قولها: بعدما حطمه الناس؛ أي: كسروه وأثقلوا عليه، أي: بعد أن كبر وضعف، فكأنهم كسروه[10]. أقول: أين نحن، وأين رجالات الأمة وعلماؤها وقادتها من هذا كله، أين مَنْ يدَّعون أنَّ قدوتهم وأسوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث، نسأل الله تبارك وتعالى أن يَمُنَّ علينا بحسن الاتِّباع والاقتداء، ونستغفره من التقصير والخلل والزلل، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على سيِّدنا مُحمَّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين. [1] صحيح البخاري (3/ 97) (2298). [2] المعجم الكبير للطبراني (6/ 277) (6215). [3] سنن النسائي (7/ 61) (3939). [4] صحيح مسلم (1/ 506) (732)، وينظر سنن النسائي (3/ 223) (1657)، ومسند أحمد، ط الرسالة (42/ 238). [5] سنن أبي داود (1/ 251) (956)، وينظر مسند أحمد، ط الرسالة (43/ 25) (25829)، وصحيح ابن خزيمة (1/ 270) (539)، وصحيح ابن خزيمة (2/ 237) (1241)، والمعجم الأوسط (3/ 60) (2475)، وفي لفظ وفي لفظ "بَعْدَمَا حَطَّمَتْهُ السِّنُّ"، ينظر مصنف ابن أبي شيبة (1/ 400) (4603)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/ 214). [6] المحكم والمحيط الأعظم (3/ 248). [7] تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم (ص: 525). [8] كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 312)، وغريب الحديث لابن الجوزي (1/ 222). [9]شرح النووي على مسلم (6/ 13)، وينظر حاشية السيوطي على سنن النسائي (3/ 219 )، وشرح السيوطي على مسلم (2/ 348)، وحاشية السندي على سنن النسائي (3/ 223)، وعون المعبود وحاشية ابن القيم (3/ 165)، مطالع الأنوار على صحاح الآثار (2/ 273)، وذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/ 391)، وفتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 510). [10] ينظر حاشية السندي على سنن النسائي (3/ 223).