البحث
القسم الأول: نعم الله ومواهبه وفضله على خلقه
تحت قسم :
المنح الإلهية في إقامة الحجة على البشرية
1687
2019/01/07
2024/10/07
يعيش الإنسان تحت ظلال آلاء الله الوافرة، ونعمه السابغة، ويتقلب في رحاب فضله عز وجل.
وهذه النعم من الكثرة بحيث لا تُعد ولا تُحصى، وللتدليل على كثرة نعمه أنزل سورة النحل التي تسمى سورة النعم، وقال فيها: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ﴾ [النحل: 18]، وقال أيضاًً: ﴿يَعْرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٣﴾ [النحل] .
فما هي أبرز هذه المواهب والمنح الربانية التي أغدقها الله على عباده، وتفضل بها عليهم، والتي لا قدرة لأحد على فعلها أو إعطائها إلا الله عز وجل؟.
نعمة الخلق السوي
لقد خلق الله سبحانه وتعالى أبا البشرية آدم عليه السلام بيديه تقديراً لشأنه، وخلَقَه في أحسن تقويم.
قال تعالى:﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ٤﴾ [التين]، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له إكراماً له، وتقديراً لذريته من بعده قال تعالى: ﴿إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ٧١ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٧٢ فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٧٣ إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٧٤ قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ ٧٥﴾ [ص].
وكان من تمام النعمة على الإنسان أن خلق له زوجه ليأنس بها في وحدته، ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَاۖ﴾ [الأعراف: 189]، قال المفسر القرطبي: «ومعنى صالحاً: يريد ولداً سوياً أي غير مشوه الخلقة»([1])، قال تعالى: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ٧﴾ [الانفطار]، «أي جعلك معتدلاً سوي الخلق».
نعمة الرزق وتسخير الكون بما فيه لخدمة الإنسان
جعل الله عز وجل الإنسان في هذا الكون في مركز السيادة، وأجرى الكون بما فيه يسعى حثيثاً لنفعه، ولصلاحه واستمرار عيشه.
قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾ [البقرة:29]
بل أكد أيضاًً أن ما في الكون كله يعمل لخدمته، قال تعالى:
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ١٣﴾ [الجاثية]، وقال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ﴾ [لقمان:20].
ثم فصلّ جل شأنه بعض هذه النعم فقال تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥ وَلَكُمۡ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسۡرَحُونَ ٦ وَتَحۡمِلُ أَثۡقَالَكُمۡ إِلَىٰ بَلَدٖ لَّمۡ تَكُونُواْ بَٰلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ ٱلۡأَنفُسِۚ إِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ ٧ وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ٨﴾ [النحل].
ثم قال تعالى:﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗۖ لَّكُم مِّنۡهُ شَرَابٞ وَمِنۡهُ شَجَرٞ فِيهِ تُسِيمُونَ ١٠ يُنۢبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرۡعَ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلۡأَعۡنَٰبَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ١١ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ١٢ وَمَا ذَرَأَ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَذَّكَّرُونَ ١٣
وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ١٤﴾ [النحل]، وقال تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ ٣٢ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ٣٣ وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ ٣٤﴾ [إبراهيم].
فانظر أخي الكريم إلى هذه النعم المسطورة في هذه المقاطع من كتاب الله، وكيف صدرت النعم في المقطع الأول بنعمة خلق الكون بما فيه من أجل الإنسان، لتدرك مدى عناية الخالق سبحانه وتعالى بالناس، ثم فصلت الهدف من خلق الحيوان، وأنه خُلق لأجل نفع الإنسان: لأكله ولباسه وتدفئته، ولركوبه وحمل أثقاله، والتمتع بجمال منظره. ثم تحدثت عن الهدف من إنزال المطر لشرب الناس، وإنبات الشجر الذي ترعاه الحيوانات، وتخرج معه شتى أنواع الثمار، وكل ذلك من أجل الإنسان، ثم قررت الغاية منم خلق البحار والأنهار، وأن السفن تجري فيها لحمل نعم الله من البضائع والأرزاق للإنسان، كما أن فيها الأسماك ذات اللحوم الطرية، واللآليء للزينة، ثم انتهت بالحديث عن عظيم كرم الله على الإنسان وأنه يعطيه كل ما سأله. قال المفسر القاسمي: «وآتاكم من كل ما سألتموه»: أي ما تحتاجون إليه مما تصلح أحوالكم ومعايشكم به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال»([2]).
نعمة الهداية بغرس أوليات ومسلمات العلم اليقينية (الضرورية) في العقل:
منذ أن وجد الإنسان ومازال يتساءل: من أين أتى؟ وإلى أين المنتهى؟
تعددت إجابات المذاهب والفلسفات، وكانوا كما قال تعالى:
﴿كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ﴾ [الروم:32]، واحتار العقل؛ من الذي لديه العلم اليقيني البديهي الضروري الذي لا يستطيع الإنسان الإنفكاك عنه؟، فإن الحق واحد لا يتعدد قال تعالى: ﴿فَذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ ٣٢﴾ [يونس].
ومبدأ عدم التناقض (النفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد في آن واحد) هو إحدى هذه البديهيات الفطرية الضرورية التي غرسها الله عز وجل في العقل البشري لتهديه إلى الحقيقة.
وقد أجمعت الأمم قديماً وحديثاً أن بداية حدوث الإنسان كانت من الله الصانع الحي القائم على تدبير الكون والإنسان والحياة، إلا شرذمة ادَّعت أن الطبيعة هي التي أحدثت الإنسان مصادفة، وأول تناقضهم أن الطبيعة هي على وزن «فعيلة» بمعنى «مفعولة» مثل ذبيحة وطريدة، أي هي مطبوعة، ومعلوم أن طبيعة من غير طابعٍ لها محال، فقد دل لفظ الطبيعة على الخالق الباري سبحانه وتعالى([3]) ومن ثم فإن قولهم: إن الطبيعة هي «فاعل» خالق لا دليل عليه، يقول الله تعالى في الرد على بعض عرب الجاهلية الذين ذهبوا لهذا القول: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ٢٤﴾ [الجاثية]، أي أن قولهم هذا مجرد وهم لا دليل عليه، قال تعالى: ﴿وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡٔٗا ٢٨﴾ [النجم]، ذلك أن أصول العقائد لا تبنى إلا على اليقين كما بين العلماء، لا على مجرد الاحتمال والوهم.
كما أن الإنسان أرقى من الطبيعة، وأكثر حرية منها، فهاهو يغزو الفضاء، ويغوص في أعماق البحار، والطبيعة مسخرة مقيدة مأسورة في قوانينها، ورحم الله شاعر الإسلام في القرن الماضي محمد إقبال عندما قال مخاطباً زعيم الإلحاد في عصره «كارل ماركس».
أيـن منـك الأفـلاك إنـك حـر
وهـي قهـرٌ ذهابُهـا والإيـابُ
ويقول الله تعالى مشيراً إلى هذه الحقيقة: ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا٧٠﴾ [الإسراء]، ثم إن الطبيعة صماء بلهاء لا يعنيها هداية الإنسان إلى الحقيقة لا من قريب أو بعيد، فالقول إنها خلقت الحياة، هو بمنزلة تجويز أن يصير المداد إذا سكب على الأرض - بمرور الزمن - مصحفاً معرَباً لا غلط فيه ولا لحن: بطبع المداد من غير كاتب عالم([4]).
يقول أحد أشهر علماء المسلمين وهو شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولا يجوز أن يكون المقتضى لتغير الإنسان وتشكيله طبيعةً غير عالمة ولا مختارة لأن الإنسان أبلغ في الترتيب والحكمة من بناء دار وصناعة تاج)([5])؛ ويقول أيضاً: (وقد علم عند عوام الناس أن انتقال النطفة إلى أن تصير إنساناً أو بهيمة أعظم في الأعجوبة من تحول الفضة خاتماً، والخشبة سريراً، والغزل ثوباً منسوجاً)([6])، وقد فطن لهذا شاعر عاقل فقال:
أيجـوز عقـلاً أن عقـلاً ناطقـاً قـد أبدعتـه طبيعـة بلهـاءُ
ونحن نرى روعة الهندسة في الزهرة، وجمال الصنعة في عين الإنسان، وحسن التنسيق في ترتيب الأسنان، ودقة النظام في تكوين عروق الدم والأعصاب، وانتهاءً بفائق التصميم لخلية الإنسان، إلى آخر ما نرى في عالم تشريح الإنسان.
يقول العلامة ابن الوزير: "فلو جاز أن يكون مثل هذا بغير صانع لجاز لنا دُوراً معمورة أو مصاحف مكتوبة أو ثياباً محوكة، أو حلىً مصوغة بغير بانٍ ولا كاتب ولا حائك ولا صائغ"([7]).
وقد أشار القرآن الكريم إلى بطلان مذهب الطبائعيين هذه، قال تعالى: ﴿وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ٤﴾[الرعد].
يقول المفسر السمعاني: "وفي الآية رد على أصحاب الطبيعة، فإن الماء واحد، والتراب واحد والحرارة واحدة، والثمار مختلفة في اللون والطعم.. والطبيعة واحدة يستحيل أن توجب شيئين مختلفين"([8]) إذ كما يقول القرطبي أشهر مفسري القرآن الكريم: " قوله: (يُسْقَى بماءٍ واحد) .. أدل دليل على بطلان القول بالطبع، إذ لو كان ذلك بالماء والتراب، والفاعل له الطبيعة: لما وقع الاختلاف"([9]) لأن هذا الاختلاف دليل يقيني على أن الصانع الخالق هو الذي يدير ويدبر هذه الأنواع التي اتحدت مادتها، وتنوعت في ثمار مختلفة متعددة لوناً وطعماً وذوقاً ونفعاً، إنها الحكمة الدالة على أن وراء ذلك: قاصد حكيم، عليم خبير، إنه الله الحي القيوم، وليست الطبيعة الجماد، ولهذا قال علماء النبات أن النباتات تتغذى بخاصية الأنابيب الشعرية، فيأخذ النبات ما يخصه من معادن التربة الصالحة له، ويترك ما عداه، وهو ما يسمى بعملية الانتخاب الطبيعي. فيقال له: إن معنى الانتخاب الطبيعي إنما يعني الاختيار، والاختيار يقتضي عقلاً يقصد ويرجح، فهل للنبات عقل؟ وهل الطبيعة مدركة لما تفعل؟
الطبيعة هذا الصنم الأبكم الأصم الأعمى، الذي ألّهته هذه الحضارة المادية، يوم أن تركت الدين جانباً، فالإيمان بالطبيعة والإيمان بالأصنام سيان، فكلاهما الإيمان بجماد لا يكافيء خيّراً ولا يعاقب شريراً ستر للحقيقة، وإنكار للآخرة حيث الحساب والعقاب، فبات الظالم أحسن حالاً وأكثر سعادة من المظلوم([10]).
أهكذا تورد يا (عقل الحقائق؟).... لو أنصفت لقلت: ما استطعت حبس الشهوات، فسترت الحق مع إيماني به في قرارة نفسي، أو لشبهة اشتبهت مع الحق، فلجهلي ما عرفت كيف أتخلص منها.
وقد حدثنا الله عن الأصنام فقال جل شأنه: ﴿أَلَهُمۡ أَرۡجُلٞ يَمۡشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَيۡدٖ يَبۡطِشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَعۡيُنٞ يُبۡصِرُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۗ قُلِ ٱدۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ ١٩٥ إِنَّ وَلِـِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ١٩٦﴾ [الأعراف].
فهذه الطبيعة البلهاء الصماء البكماء أرادوها أن تكون إلهاً فاعلاً، ولكنها صنم هوى تحت مطارق البرهان البديهي الواضح اليقيني القاطع الذي جاء به الإسلام، وسنقدم هذا البرهان للناس في هذا العصر الذي فتن فيه بعض أهله بهذه الفكرة السطحية، التي لادليل عليها إلا مجرد الظن، أي: الوهم.
------------------------------------------------------
([1]) الجامع لأحكام القرآن 7/388، 19/246، دار إحياء التراث العربي ببيروت 1405 – 1985.
([2]) محاسن التأويل.
([3]) أنظر: مفتاح دار السعادة لأبن القيم 1/299، الطبعة الأولى – دار الحديث، القاهرة 1414/1994.
([4]) إيثار الحق على الخلق – لابن الوزير 1/51، 1/48، ط2 – دار الكتب العلمية 1987.
([5]) درء تعارض النقل والعقل 4/116، 4/94.
([6]) درء تعارض النقل والعقل 4/116، 4/94.
([7]) إيثار الحق على الخلق – لابن الوزير 1/51، 1/48.
([8]) تفسير السمعاني 3/77.
([9]) الجامع لأحكام القرآن 9/281، طبعة أولى، دار عالم الكتب 1423هـ/2003م.
([10]) نقل الطبيب إسحاق بن على الرهاوي عن سقراط الحكيم اليوناني قوله: (فإنه لو كان الموت هو بوار الأمر كله، لكانت هذه فرصة الأشرار غذا ماتوا، وأن يستريحوا من البدن، ومن شرهم مع النفس التي هي في أبدانهم) أدب الطبيب ص 45 ط1 مركز الملك فيصل للبحوث 1412هـ - 1992م.