البحث
القسم الثاني: براهين الإيمان وإقامة الحجة على البشرية
تحت قسم :
المنح الإلهية في إقامة الحجة على البشرية
1616
2019/01/09
2024/10/15
ومن أجل تمام النعمة، وكمال المنة، ودلالة الخلق على الخالق، ومن أجل معرفة الغاية التي من أجلها خلق الإنسان فوق هذه الأرض، فقد تلقَّفته رحمة الله بإقامة البراهين اليقينية، والآيات الظاهرة، والحجة البالغة، لكي يعلم الطريق الواصل إلى الله عز وجل، فإن الله تعالى طلب منه أن يعمر الأرض.
قال تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا﴾ [هود: 61]
أي أوجب عليكم عمران الأرض([1]) وذلك لا يكون إلا بإقامة العدل والبناء الحضاري الذي تتسق فيه المدنية المادية مع الدين، والقيم الأخلاقية، والمثل العالية، والرحمة والحب بين بني البشر وبذلك يثبت أن الخيار الوحيد لسعادة الإنسان فوق هذه الأرض هو:(الله أو الدمار). إما منهج الله المحقق لكل خير ومصلحة للإنسانية جمعاء، وإما انحراف يؤدي بالإنسان إلى الدمار، وهو ما شهدناه عبر مراحل مسار الإنسان على وجه الأرض.
البرهان الأول: إحساس الفطرة
الفطرة لغة (الحالة من الفطر، وهو الابتداء والاختراع)([2]) (يقال: فَطَرَهُ يَفْطُرُهُ: أي خلَقه)([3]).
وفي الاصطلاح هي (ما فطر الله عليه الخَلْق من المعرفة به ...قال أبو الهيثم: الفطرة: الخِلْقة التي يُخْلَقُ عليها المولود في بطن أمه، ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَّا ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُۥ سَيَهۡدِينِ ٢٧﴾ [الزخرف]، أي خلقني)([4]). ورسولنا صلى الله عليه وسلم يكشف لنا هذا الأمر بقوله: (كل مولود يولَد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو يمجِّسانه أو ينصِّرانه)([5]).
فالفطرة إذاً هي أصل التكوين، وهذا هو الحق الذي يعتقده المسلمون، وذلك أن الله خلق الإنسان نقياً طاهراً مؤمناً بوجود خالق حي قائم على تربيته وتدبيره، وإذا ما طرأ عليه طارئ من انحراف، فإنما هو بتأثير مؤثرات خارجية، هي الأهواء والشهوات ومنها (حب الآباء وتقليدهم)، ثم الشبهات، فإذا سار الإنسان على الإيمان، فإنما يسير على فطرة الله التي فطره الله عليها، وإذا سار على غير ذلك كان سيره على خلاف هذه الفطرة التي فطره الله عليها، فالإيمان بالله مركوز في أعماق النفس البشرية، وهذا الحس الباطني بوجود الله تعالى المغروز في خلايا الإنسان، نوع من دليل الحس، ولا جدال في المحسوسات، ومما يدل على ذلك أيضاًً أنه عندما تفسد الفطرة سرعان ما تستيقظ هذه الفطرة عند الشدائد، بل كلما كانت المصيبة والعجز أشد،كان اليقين بالله أوفر وآكد، قال تعالى: ﴿إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجَۡٔرُونَ﴾ [النحل:53] ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِي ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُۖ فَلَمَّا نَجَّىٰكُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ أَعۡرَضۡتُمۡۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ كَفُورًا٦٧﴾[الإسراء] والمعرفة التي تحصل من أحوال الاضطرار أشد رسوخاً في القلب من نتائج الأفكار حال الاختيار.
وهكذا فمعرفة الله لا تحتاج لدليل عقلي أو برهان نظري، فإن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهية فكرتها بالصانع الحكيم([6]).
وهكذا نجد أن المؤمن يعيش في توازن بين مطالب روحه وحاجات جسده، وبين أصل خلقته، وبين منهجه في السلوك والتشريع والحياة، ومثل هذا التلاقي والتواؤم والانسجام لا يوجد إلا في ظلال الإسلام.
فإذا ما نظرنا إلى حياة المسلم نجد أنها في سعادة وأنس وطمأنينة، وهو على نقيض الحياة التي يعيشها غير المسلم من: انفصام في الشخصية، وعدم تواؤم بين الروح والجسد، وعدم توازن بين فطرة الله وبين المؤثرات الخارجية عليها.
لذا كان إيماننا بأن جميع الناس ولدوا على الفطرة، وهذه أول منحة منحنا الله إياها في الدلالة عليه سبحانه وتعالى.
فالناس جميعاً في الحقيقة مؤمنون بالله، ومقرون بفطرهم وقرارة أنفسهم بوجود الله تعالى، والكافر هو أيضاًً مقر بذلك، ولكنه يستر الحقيقة، وهذا هو معنى الكفر، وأسباب هذا الستر تعود إما إلى الشهوات -وقد قيل: المعاصي بريد الكفر- وإما من الشبهات التي يزخرف بها شياطين الإنس فضلاً عن الجن ﴿ٱلَّذِي يُوَسۡوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ ٥ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ٦﴾ [الناس].
وقد قال علماء الإسلام إن (أسباب خطأ الإنسان أربع: الحرص، والحسد، والغضب، والشهوة)، وقد ورد عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله لولاته: (لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفِّروهم).
فمنع الإنسان حق الكفاية في العيش الكريم: مطعماً وملبساً ومسكناً وزواجاً وعلاجاً ... يجعل الإنسان غضباناً فيكون حاقداً وقد يؤدي إلى كفره، ويستر الحقيقة.
----------------------------------------------------------------
([1]) أنظر: احكام القرآن لابن العربي 3/1059، دار المعرفة، وأحكام القرآن للجصاص 4/378.
([2]) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/457.
([3]) انظر: لسان العرب لابن منظور (5/56).
([4]) أنظر المصدر السابق.
([5]) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري 3/246.
([6]) أنظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 4/75-76.