البحث
نبذة عن جهود السلف في خدمة السنة النبوية
خدمة السلف للسنة النبوية كانت في عدة مراحل :
أولًا : حفظ الصحابة لأحاديث رسول الله ﷺ وتبليغها .
كان الصحابة يعتمدون في الأساس على حِفْظِهم وجودةِ قرائحهم، وكان كثيرٌ منهم يحتاطُ من تدوين الحديث خشيةَ الاتِّكال على الكتابة، فيَضعُف الحِفْظُ؛ وكذا حتى لا ينشغل الناس بغير القرآن الكريم.
ولم يكتفِ الصحابةُ بمجرَّد حفظ الحديث وفهمه والعمل به، بل تعدَّوا ذلك إلى تبليغه إلى مَن لا يعرفه، خاصةً زوجاتهم وأولادهم، وأقرب الناس إليهم، بل وللناس جميعًا؛ استشعارًا للمسؤولية التي أمرهم الله عز وجل ورسولُه ﷺ حيث قال
" نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ" .
أخرجه الترمذي في سننه ( 4 / 330 ) برقم (2656)
ثانيًا : تدوين بعض الصحابة لأحاديث رسول الله ﷺ في حياته .
أذِنَ النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة حديثه، وقد ورد في ذلك أحاديث منها:
(1) حديث أبي هريرة:
" مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ".
أخرجه البخاري في صحيحه ( 1 / 34 ) برقم (113)
(2) وعنه أيضًا قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة إلى أن قال:
"اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ ".
أخرجه البخاري في صحيحه ( 2 / 125 ) برقم (2434)
(3) حديث ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه:
"ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ" قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: "قُومُوا عَنِّي، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ" فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ، مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ».
أخرجه البخاري في صحيحه ( 1 / 34 ) برقم ( 114 )
(4) حديث عبدالله بن عمرو بن العاص :
" كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: " اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا حَقٌّ ".
أخرجه أحمد في مسنده ( 11 / 57 ) برقم (6510)
(5) حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: بينما نحن حول رسول الله -صلي الله عليه وسلم - نكتب، إذْ سُئل رسول الله -صلي الله عليه وسلم -:
أيُّ المدينتين تُفْتَح أَولا: قُسْطنطينيَّةُ أَو رُومِيَةُ؟، فقال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مدينةُ هِرَقْلَ تُفْتَح أوّلا"، يعني قسطنطينيةَ.
أخرجه أحمد في مسنده ( 6 / 202 ) برقم (6645)
ثالثًا : تدوين الصحابة لأحاديث رسول الله ﷺ بعد وفاته .
فكانت هناك صحف حديثية للصحابة مدوّن بها أحاديث رسول الله ﷺ منها:
(1) صحيفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بها فرائض الصَّدَقة:
روى البخاري بسنده إلى أنس بن مالك أن أبا بكر رضي الله عنه، كتب له هذا الكتاب لما وجَّهَه إلى البحرين:
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، «فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا، فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ، فَمَا دُونَهَا مِنَ الغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ، فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعٌ مِنَ الإِبِلِ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ، فَفِيهَا شَاةٌ وَفِي صَدَقَةِ الغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاَثِ مِائَةٍ، فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِ مِائَةٍ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا وَفِي الرِّقَّةِ رُبْعُ العُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا".
أخرجه البخاري في صحيحه ( 2 / 118 ) برقم (1454)
(2) صحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
خَطَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِلِ، وَإِذَا فِيهَا: «المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا»، وَإِذَا فِيهِ: «ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا»، وَإِذَا فِيهَا: «مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا».
أخرجه البخاري في صحيحه ( 9 / 97 ) برقم (7300)
(3) صحيفة أنس بن مالك رضي الله عنه :
كَانَ أَنَسٌ إِذَا حَدَّثَ فَكَثُرَ النَّاسُ، عَلَيْهِ الْحَدِيثَ جَاءَ بِمَجَالٍ لَهُ فَأَلْقَاهَا إِلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ:
«هَذِهِ أَحَادِيثُ سَمِعْتُهَا وَكَتَبْتُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَرَضْتُهَا عَلَيْهِ».
أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ( 1 / 415 ) برقم (757)
(4) كما كتب الصحابة بعضهم إلى بعض رسائل بأحاديث رسول الله ﷺ منها :
- كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعتبة بن فرقد.
- وكتاب زيد بن ثابت في أمر الجدِّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- وكتاب زيد بن أرقم رضي الله عنه إلى أنس بن مالك رضي الله عنه .
(5) كما اهتم الصحابة رضوان الله عليهم بالجرح والتعديل :
- فقد سأل عبدالله بن عمر رضي الله عنه أباه رضي الله عنه عن روايةٍ لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال له عمر رضي الله عنه: إذا حدَّثك سعدٌ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تسأل عنه غيرَه.
- وسأل عمر رضي الله عنه عبدَالرحمن بن عوف رضي الله عنه عن حديثٍ، فوجد عنده منه علمًا، فقال له: هَلُمَّ؛ فأنت العدل الرضا.
وظلَّ الأمر على ذلك حتى ظهرت الفتنة، وحاول البعض أن يُؤَيِّد موقفَه بأدلَّةٍ من السُّنة، فبدأ الصحابة رضوان الله عليهم ينتبهون لهذا الأمر، ويسألون عن أسانيد الأحاديث، ويتثبَّتون في النقل، ويتحرَّون في الرواية، وقد وجَدوا في أدلة الشرع ما يُؤكِّد هذا المنهجَ ويوجبه؛ حمايةً للسنة، ودفاعًا عنها.
فبدأ الصحابة رضوان الله عليهم البحث والتفتيش عن حال الرواة، إلا أن الكلام في الرواة جرحًا وتعديلًا كان قليلًا في هذا الزمن المبارك؛ لقِلَّة بواعثه؛ ولأن أكثر الرواة صحابة، وهم عدول، وأكثر الرواة من التابعين ثقات، فلا يكاد يوجد في القرن الأول - الذي انقرض فيه الصحابة وكبارُ التابعين - ضعيفٌ، إلا الواحد بعد الواحد من التابعين، ولقد تكلَّم في الرواة عددٌ من صغار الصحابة؛ كأنس بن مالك رضي الله عنه، وعبدالله بن عباس رضي الله عنه، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وغيرهم .
(6) عقد مجالس للتحديث:
من الوسائل التي استخدمها الصحابة رضوان الله عليهم لتبليغ الحديث أن يعقدوا مجالسَ خاصَّة للتحديث، يعرفها الطلاب ويحضُرون إليها متهيِّئين مستعدِّين للسَّماع والحفظ، وهذه الأمثلة تُؤكِّد ذلك:
و كان مِن أشهر مَن يجلسون للتحديث أبو هريرة رضي الله عنه؛ فعن محمد بن عمرو بن حزم أنه قعد في مجلسٍ فيه أبو هريرة رضي الله عنه يحدِّثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنكِره بعضهم ويَعرِفه البعض، حتى فعل ذلك مرارًا، قال: فعرَفتُ يومئذٍ أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظُ الناس عن رسول الله ﷺ .
رابعًا : تدوين الحديث في عصر ما بعد الخلفاء الراشدين .
مع توسع الرقعة الإسلامية واختلاط غير المسلمين بالمسلمين احتاج المسلمون إلى تدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يضيع وبخاصة وقد مات كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.
فكان أول من شرع بذلك الإمام ابن شهاب الزهري : بأمر من الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز : فكتب إلى عماله ومنهم أبو بكر بن حزم : أن: (انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء) فاستجاب الإمام الزهري - رحمه الله -.
ثم توالت الجهود في التصنيف والتقعيد حتى جاءت المائة الثالثة فكانت زهرة التصنيف في جمع الحديث وهي التي ظهر فيها الصحاح والسنن والمسانيد.
فاتسم هذا العصر بما يلي:
أ ـ جمع الأحاديث النبوية المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ب ـ ذكر بعض أقوال الصحابة والتابعين، ويظهر هذا في المصنفات والمسانيد أكثر منها في الصحاح .
ج ـ العناية بذكر الإسناد لكل حديث.
د ـ العناية بذكر الصحيح والحسن (المقبول) وشيء من الضعيف إلا من اشترط الصحة.
هـ ـ عدم النص على الحكم في الغالب.
و ـ عدم التعليق على الأحاديث.
ز ـ عدم اختلاط الحديث بغيره من كلام الناس.
ويعد القرن الثالث الانطلاقة الكبرى في بذل مزيد من الجهود الحديثية فتنوع التصنيف والتدريس وغيرها .