البحث
مقدار القراءة
كانت صلة النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة بالقرآن الكريم، فبالإضافة إلى القراءة في الصلوات، كان يقرأ كل يوم قدراً معيناً من القرآن الكريم، ففي حديث أوس بن حذيفة، وهو واحد من وفد ثقيف: أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليهم كل يوم، وتأخر في يوم فسئل عن سبب ذلك فقال
(إنه طرأ على حزبي من القرآن، فكرهت أن أخرج حتى أتمه)
رواه أبو داود وابن ماجه
والمعنى أنه طرأ عليه صلى الله عليه وسلم ما منعه عن القراءة في الوقت الذي خصصه لذلك، فقرأه بعد ذلك فكان سبباً لتأخره
وقد فعل الصحابة كما فعل صلى الله عليه وسلم فكان لكل منهم حزبه الذي خصصه لنفسه، والتزم بقراءته كل يوم، حتى كان ذلك حديثاً متداولاً بينهم
فقد التقى معاذ وأبو موسى، فقال معاذ: يا عبدالله، كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوقاً - أي: ألزم قراءته ليلاً ونهاراً شيئاً بعد شيء وحيناً بعد حين - فقال أبو موسى: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم فأقرأ ما كتب الله لي. رواه البخاري
وَقَالَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ)
رواه مسلم
والحديث يؤكد أن الالتزام بحزب من القرآن كل يوم كان أمراً معمولاً به من كل الصحابة بدلالة عموم الخطاب في هذا الحديث، وأن موعد قراءته كان ليلاً قبل النوم يخنك المسلم به يومه
وليس بين أيدينا نص يحدد مقدار هذه القراءة، وإنما هو أمر متروك للمسلم، فهو الذي يحدد هذا المقدار وفقاً لقدرته ونشاطه، يدلنا على ذلك ما جاء عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما في قصته المشهورة
قال عبدالله: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه، ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم
(القني به)
فلقيته بعد، فقال:
(كيف تصوم؟)
رواه البخاري
وفي هذه القصة ناقش الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله في صيامه الذي يتطوع به، وكذلك في أمر صلاته من الليل، وفي مقدار قراءته للقرآن
وأخرج الترمذي وأبو داود أن كان من حديث صلى الله عليه وسلم أن قال له
(قَالَ لَهُ اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي أَرْبَعِينَ يوماً)
، وفي رواية البخاري ومسلم: فقال عبدالله: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال: (اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي أَرْبَعِينَ في شهر)
وكأني به صلى الله عليه وسلم عندما بدأ معه من (أَرْبَعِينَ يوماً) إنما فعل ذلك ليلبي طموحه ورغبته في الإكثار من القراءة بعد ما عرف من قصته، وحبه للعكوف على العبادة، وإلا فمن الممكن أن تكون قراءة القرآن في ستين يوماً أو أقل أو أكثر
وخلاصة القول: إن المسلم مطلوب منه أن يكون على صلة يومية بالقرآن الكريم، ومقدار القراءة متروك له تحديده، وإن كان من المستحسن أن يكون في أربعين يوماً أو في شهر كما ورد في الأحاديث الشريفة
وما ذاك إلا ليكون على صلة دائمة بتشريعه الذي أنزله الله له، ولا يطول عليه الأمد فينساه.. فاستمرار التكرار يجعل للتشريع حضوراً دائماً في الذهن.. فيظل الضابط للأعمال قائماً
* * *